تصاعد تأثير الغاز، أو ما تطلق عليه بعض الأدبيات “سلام الأنابيب” العابرة للحدود، في دعم العلاقات العربية- العربية، بما يسهم في تعزيز المصالح المشتركة بين الدول العربية، وهو ما عكسه إيصال الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي السورية والأردنية، وتوفير حلول عربية للأزمات العربية الممتدة وخاصة نقص الطاقة على نحو ما تعاني منه لبنان، والحفاظ على قنوات اتصال لمنع تدهور العلاقات العربية البينية، وهو ما تجسد في تأييد المغرب الحفاظ على خط أنابيب الغاز الجزائري الذي يصل إلى أسبانيا، على الرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر. فضلاً عن الاستغلال الأمثل للثروات البترولية والغازية في المناطق المشتركة، الأمر الذي ينطبق جلياً على تشغيل أول خط ينقل الغاز للكويت من المنطقة المشتركة مع السعودية، وإعادة إدماج سوريا في المنظومة العربية، بعد إعلان الحكومة العراقية اعتزامها استيراد الغاز الطبيعي من سوريا، وكذلك التأكيد على الدعم الثابت للحقوق الوطنية الفلسطينية، وهو ما برز جلياً في الاتفاق المصري- الفلسطيني بشأن تطوير حقل غاز غزة.
اتجاهان رئيسيان
يشير اتجاه رئيسي في الأدبيات إلى أن الغاز يمثل عامل صراع في التفاعلات الإقليمية، نظراً للتنافس بين الدول على ملكية الموارد الطبيعية، وبصفة خاصة في الشرق الأوسط أو شرق المتوسط، لاسيما مع تصاعد المخاطر الأمنية الناتجة عن الثورات الشعبية والصراعات المسلحة وما أدت إليه من قيام جماعات مسلحة بمهاجمة خطوط الأنابيب وإحداث أضرار بها. في حين يذهب اتجاه آخر إلى أنه يمكن لخطوط أنابيب الغاز أن تسهم في حل النزاعات القائمة، في ظل وجود حاجة مشتركة لاستثمار هذا المورد ليصبح وسيلة لتعزيز التعاون، ومن المحتمل أن يتزايد دورها خلال السنوات المقبلة، لاسيما أنها الوسيلة الأكثر فعالية.
وفي هذا السياق، تعددت المؤشرات الدالة على دور الغاز في دعم أو على الأقل الحفاظ على العلاقات بين الدول العربية، في ظل توافر الإرادة السياسية للنخب الحاكمة في تلك الدول، خلال الفترة الماضية، وذلك على النحو التالي:
الغاز العربي
1- تعزيز المصالح المشتركة بين الدول العربية: وهو ما عكسه إيصال الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي السورية والأردنية، والذي انتهى إليه الاجتماع الوزاري لدول “خط الغاز العربي”، في 8 سبتمبر الجاري، والذي استضافته الأردن وضم إلى جانبها مصر وسوريا ولبنان، حيث يمثل ذلك إحياءاً لاتفاقية قديمة بين الدول الأربعة وقعت في عام 2003، وقطعت أشواطاً على ثلاث مراحل. فقد بدأ تنفيذ تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى الأردن عبر سوريا في ديسمبر 2009، حتى توقف في عام 2011، بسبب تضرر خطوط الأنابيب خلال الاحتجاجات ضد النظام السوري، والتي تطورت إلى صراعات مسلحة بين أطراف مختلفة.
وهنا، أوضحت وزيرة الطاقة والثروة المعدنية الأردنية هالة زواتي أن “الاجتماع يأتي إيماناً بأن التعاون بين دول خط الغاز العربي سيكون خطوة فعّالة ومؤثرة، في دعم المشاريع الاستراتيجية وتعزيز المصالح المشتركة، التي من شأنها الانعكاس إيجاباً على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول”، مشيرة إلى أن “اجتماعات فنية عقدت على هامش الاجتماع الوزاري تمت خلالها دراسة جاهزية البنية التحتية اللازمة لنقل الغاز الطبيعي في كل دولة من الدول الأربعة والمتطلبات الفنية اللازمة، والاتفاق على تقديم خطة عمل واضحة وجدول زمني لإيصال الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان، على أن ينهي الفريق المشكّل أعماله ضمن مدة محددة، وأن يتم رفع النتائج ليتم اعتمادها بتوافق الأطراف والعمل بمضمونها بأسرع وقت”.
إحياء اتفاقيات
2- توفير حلول عربية للأزمات العربية الممتدة: تعكس كلمة وزير الخارجية المصري سامح شكري في ختام أعمال الدورة الـ156 لمجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري في 9 سبتمبر الجاري، التزام ثابت لمصر تجاه أشقائها العرب، من أجل تخطي هذه الفترة الاستثنائية في تعدد جبهاتها وتنوع مصادر تهديدها للعالم العربي، إذ أن هذه التحديات تفرض على الدول العربية بذل جهود استثنائية لمواجهتها، والعمل المتواصل على بلورة أفكار غير تقليدية لتعزيز التعاون البيني العربي، مشيراً إلى إيمان مصر بضرورة وجود حلول عربية للأزمات العربية يتعين تنفيذها بدلاً من انتظار الحلول القادمة من الخارج، وهو ما يفسر الحماس المصري لإعادة إحياء الاتفاقية العربية لتوصيل الغاز إلى لبنان التي تعاني أزمة طاقة حادة، وبمواكبة من البنك الدولي لتوفير مظلة مالية، ودراستها من كل الأبعاد التقنية والإدارية والفنية.
وفي هذا السياق، قال وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا في 8 سبتمبر الجاري: “انطلاقاً من دور مصر الدائم تجاه الأشقاء العرب في كافة القضايا وبتوجيهات من الرئيس عبدالفتاح السيسي، بتسخير كافة الإمكانيات لمد يد العون للشعب اللبناني الشقيق والتكاتف معه وتضافر الجهود لتجاوز محنة أزمة الطاقة والتحديات التي تواجهها لبنان، تعمل مصر على سرعة التنسيق لوصول الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا، حرصاً من مصر في التخفيف عن كاهل الشعب اللبناني والمساهمة في دعم لبنان واستقراره”. كما قال وزير الطاقة والثروة المعدنية السوري بسام طعمة أن “مشروع خط الغاز العربي يعد من أهم مشاريع التعاون العربي المشترك”، مضيفاً أن “الرئيس السوري بشار الأسد وجّه للمساعدة في تجاوز الصعوبات التي يواجهها الشعب اللبناني في مجال الطاقة”.
تنشيط السلام
3- الحفاظ على قنوات اتصال لمنع تدهور العلاقات البينية العربية: على نحو ما تجسد في تأييد المغرب الحفاظ على خط أنابيب الغاز الجزائري. فعلى الرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، بناءً على قرار اتخذته الأخيرة في 24 أغسطس الفائت، إلا أن الأولى أعربت عن تأييدها الحفاظ على خط أنابيب الغاز المغاربي- الأوروبي، الذي يربط الحقول الجزائرية بالقارة الأوروبية، مروراً بالمملكة المغربية، فيما ينتهي الاتفاق بشأنه في أكتوبر 2021، وهو ما جاء في تصريح المديرة العامة للمكتب الوطني للهيدروكاربورات والمعادن أمينة بنخضرة لوكالة “المغرب العربي للأنباء الأساسية” في 21 أغسطس الفائت، والذي قالت فيه: “إن إرادة المغرب للحفاظ على هذا الخط لتصدير الغاز تم دائماً تأكيدها بوضوح وعلى جميع المستويات منذ أكثر من ثلاث سنوات”، وأضافت: “إرادتنا (….) عبرنا عنها شفاهياً وكتابياً، في العلن وخلال المحادثات الخاصة”، الأمر الذي يضع حداً لما تم تداوله من تقارير بشأن نوايا المغرب منع تجديد العقد الخاص بخط أنابيب الغاز الذي يربط الجزائر بأسبانيا منذ عام 1996. في حين كان موقف الجزائر مختلفاً نسبياً، حيث لم تبد رأياً متوافقاً أو مختلفاً مع التوجه المغربي، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة خلال مؤتمر صحفي في 25 من الشهر نفسه، بقوله: “فيما يخص ملف الغاز، سيتم اتخاذ قرار لشركة المحروقات (سوناطراك)، بعد إجراء تقييم وفق الاعتبارات الدولية وما يتناسب مع الوضع الجديد”.
المنطقة المقسومة
4- الاستغلال الأمثل للثروات البترولية والغازية في المناطق المشتركة: الأمر الذي ينطبق جلياً على تشغيل أول خط ينقل الغاز للكويت من المنطقة المشتركة مع السعودية (عمليات الخفجي)،وهو ما أعلنته الشركة الكويتية لنفط الخليج في 11 أغسطس الفائت. ووفقاً لبيان الشركة، سيجري التشغيل عبر ربط خطوط الأنابيب البرية والبحرية بطول 100 كيلومتر مع خطوط الغاز التابعة لشركة نفط الكويت التي تقوم بتغذية محطة “الزور” للطاقة، وتصل الطاقة الاستيعابية لخط الأنابيب إلى 24 مليون قدم مكعبة من الغاز الخفيف. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطوة تمثل حصيلة تعاون مع شركة “أرامكو” لأعمال الخليج بما يسهم في تعزيز قدرة الكويت للاستفادة من موارد الغاز في إنتاج الطاقة وتخفيض تكاليف استيراده لتغطية الاستهلاك المحلي، علاوة على الاستغلال الأمثل للثروات البترولية في المنطقة المقسومة بين الكويت والسعودية خاصة في إنتاج وتوليد الطاقة.
عودة دمشق
5- إعادة إدماج سوريا في المنظومة العربية: وذلكبعد إعلان الحكومة العراقية اعتزامها استيراد الغاز الطبيعي من سوريا، إذ أشار وزير النفط العراقي إحسان عبدالجبار بعد اجتماع مع نظيره السوري بسام طعمة في 29 أبريل الماضي، إلى أن البلاد تعتزم استيراد الغاز الطبيعي من سوريا، وفقاً لما ذكرته وكالة “الأنباء العراقية”. ويسهم ذلك في عودة متدرجة للعلاقات بين الدول العربية من جانب وسوريا من جانب آخر، على مستويات مختلفة، اقتصادية ونفطية وأمنية، في الوقت الذي تطرح مسألة عودة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية بعد تجميده لسنوات، وهو ما يسهم في إعادة سوريا إلى الحاضنة العربية، حتى لا تترك للقوى الروسية والإيرانية والتركية، بحيث يعاد خطأ ترك العراق لإيران بعد الاحتلال الأمريكي في عام 2003.
الدعم الفلسطيني
6- التأكيد على الدعم الثابت للحقوق الوطنية الفلسطينية: والذي يمثل قاسماً مشتركاً للتوجهات السائدة لغالبية الدول العربية، على نحو برز جلياً في مؤشر الاتفاق المصري- الفلسطيني بشأن تطوير حقل غاز غزة، حيث أكد وزير البترول المصري طارق الملا في 21 فبراير الماضي على موقف بلاده الثابت والداعم للحقوق الوطنية الفلسطينية، بما فيها الحق في استغلال الموارد الطبيعية والسيادة على هذه الموارد، وفي مقدمتها حقل غاز غزة. إذ شهد لقاء وزير البترول المصري مع مسئولي الطاقة بالسلطة الوطنية الفلسطينية، توقيع مذكرة تفاهم بين الأطراف الشريكة في حقل غاز غزة، والمتمثلة حالياً في صندوق الاستثمار وشركة “اتحاد المقاولين”CCC مع الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية “إيجاس”.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المذكرة تعزز مساعي تطوير حقل غاز غزة والبنية التحتية اللازمة، بما يوفّر احتياجات فلسطين من الغاز الطبيعي فضلاً عن تعزيز التعاون بين البلدين، مع تأكيد الجانبين على أن تطوير حقل غاز غزة سيكون له أثر كبير على قطاع الطاقة في فلسطين وتحديداً في إيجاد حل جذري لأزمة الطاقة التي يعاني منها قطاع غزة، وتزويد محطة جنين لتوليد الطاقة بالغاز. كما اتفق الجانبان في هذا الإطار على تكثيف التعاون الثنائي، ومع بقية الدول الأعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط، لاسيما إسرائيل، من أجل تسهيل وتسريع عملية تطوير حقل غاز غزة.
مداخل مختلفة
خلاصة القول، إن هناك مداخل مختلفة لإسهام خطوط أنابيب الغاز في دعم التعاون العربي- العربي، والحفاظ على تشغيله وتحسين فعاليته، والالتزام بما يطلق عليه “بروتوكول العبور”، ومنها دور مصر والأردن وسوريا في تخفيف أزمة الوقود التي أصابت لبنان في سياق أزمة اقتصادية تصنف بأنها من بين الأسوأ في العالم، وتلبية الاحتياجات من الكهرباء، ومنع تدهور العلاقات بين بلدين على نحو ما هو قائم بين الجزائر والمغرب، وتجاوز الخلافات بين السعودية والكويت بشأن استغلال الثروة النفطية والغازية في المنطقة المقسومة، ودعم مصر الوضع الفلسطيني باستغلال حقل غاز غزة، وهكذا.