سادت فى الفترة الأخيرة توقعات بتراجع مستوى الصراعات التي اندلعت فى العقد الأخير بفعل وجود خطط تسوية على طاولات الحوار المختلفة، حيث تسربت خطط بهذا المعنى فيما يخص الصراع فى اليمن، وبدا أن ثمة تقارباً روسياً – أمريكياً فى سوريا، فى ضوء لقاء مرتقب بين مسئول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي بريت ماكغورك، ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فريشينين، والمبعوث الرئاسي ألكسندر لافرينييف. كما برزت الانطباعات ذاتها فى ليبيا مع تحقيق اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) تقدماً نسبياً فى الملف الأمني لاسيما بعد عملية فتح الطريق الساحلي، وإتمام مرحلة جديدة من الإفراج عن الأسرى ما بين الجيش الوطني الليبي وقوات غرب ليبيا. لكن يبدو أن هناك ارتدادات موازية تمثلت فى عمليات التصعيد المسلح التي تدفع إلى عرقلة التقدم فى تلك الملفات. ففى سوريا، اندلعت مواجهات جديدة فى درعا، كما شنت مليشيا المتمردين الحوثيين عملية هجومية نوعية على السعودية فى 4 سبتمبر الجاري، سبقها بأسبوع هجوم كبير على قاعدة العند الجوية، بالإضافة إلى مشهد الصدام المسلح بين مليشيات فى غرب ليبيا.
أسباب متعددة
يمكن تفسير هذا التصعيد المتزامن في الملفات المختلفة في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- رفض جهود التسوية السياسية: عاد التصعيد مجدداً على الجبهتين الداخلية والخارجية في اليمن. فقد زادت المليشيا الحوثية من كثافة وحِدَّة الضربات على جبهة مأرب، كان أحدث فصولها في مديرية رحبة، بعد أن استهدفت منازل المدنيين على نطاق واسع، ما اضطر الآلاف منهم للنزوح، بالإضافة إلى الهجوم الذي أسقط ما يزيد على 40 قتيلاً فى صفوف قوات المجلس الانتقالي الجنوبي فى قاعدة العند الجوية، التي تعرضت لضربات صاروخية وطائرات من دون طيار، فى عملية أكبر من عملية سابقة لها العام الماضي، على مستوى عدد الضحايا ودمار بنية القاعدة الجوية. وتوازى ذلك مع التصعيد الحوثي ضد السعودية، في 4 سبتمبر الجاري، والذي سجل أحد أعلى الهجمات خلال الأشهر الستة الأخيرة بعد عملية 7 مارس الماضي. وعلى الرغم من نجاح السعودية في إحباط الهجمات، إلا أن دلالاتها تشير إلى أن المتمردين الحوثيين يسعون إلى تأكيد رفضهم لخطة تسوية مرتقبة مع تسلم المبعوث الأممي الجديد هانز جروندبرج مهام منصبه عشية تلك الضربات.
2- تغيير توازنات القوى العسكرية: وهو ما يبدو جلياً في حالة سوريا، التي شهدت اندلاع مواجهات بين قوات الجيش السوري، وبين فصائل المعارضة فى درعا، بما يعد انتهاكاً لاتفاق عام 2018 بين النظام واللجان المركزية ووجهاء حوران فى درعا. وقد بدا لافتاً أن اندلاع هذه المواجهات توازى مع استمرار الوساطة الروسية التي فرضت اتفاقاً مرتين فى غضون شهر واحد، لكنه لم يلبث أن انهار بسبب عدم التزام الأطراف المنخرطة فيه ببعض الاستحقاقات الرئيسية، على غرار رفض بعض العناصر عملية التهجير من درعا إلى مناطق الشمال، وقيام النظام بملاحقتهم فى بعض المواقع. ورغم أن روسيا تؤكد أن ذلك لن يمنعها من التوصل إلى اتفاق نهائي لوقف الحرب بين الطرفين، إلا أنه لا تزال هناك شكوك بشأن السيطرة على الأوضاع فى درعا على خلفية موقف النظام منها ورغبته فى إخضاعها سياسياً وحسم موازين القوى العسكرية فيها لصالحه.
3- محاولات تشكيل تحالفات جديدة: انفجر صدام مسلح في ليبيا بين ما يسمى بـ”قوات جهاز دعم الاستقرار”، بقيادة عبد الغني الككلي “غنيوة”، وبين “اللواء 444″، فى 4 سبتمبر الجاري، بشكل أدى إلى تصاعد حدة الفوضي الأمنية فى طرابلس العاصمة. وعلى الرغم من احتواء الموقف، مع قيام رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة باستدعاء الأطراف ومساءلتهم بشأن ما جرى، وإطلاق المدعي العام العسكري تحقيقاً فى تلك القضية، إلا أنه لا يعتقد أن الأمر غير قابل للتكرار، لاسيما أن قوات “جهاز دعم الاستقرار” سبق وأن شنت هجمات فى مناطق بالعجيلات استهدفت فيها مليشيا مناوئة لها، بالإضافة إلى أن هناك اتجاهاً للسيطرة على بعض المليشيات أو الألوية فى إطار عملية تشكيل تحالفات جديدة لإدماج أكبر عدد ممكن من تلك المليشيات تحت مظلة واحدة، بهدف إعادة هيكلة موازين القوى فى غرب ليبيا فى ظل الاستعداد لاندلاع صراع جديد محتمل فى المستقبل فى حال انتكاس العملية السياسية المتعثرة.
4- حسابات متقاطعة للفاعلين المنخرطين: لا يزال لدى بعض الفاعلين على الأرض رغبة فى استمرار التعويل على الخيار العسكري، ربما على خلاف رغبة القوى الرئيسية المنخرطة فى تلك الصراعات أو الوسطاء. فالنظام السوري لديه الرغبة فى إخضاع درعا وتوسيع نطاق سيطرته على الأراضي السورية، في حين لا يبدو أن موسكو لديها ما يتجاوز الرغبة فى استقرار يحقق أهداف استراتيجية تتعلق بعامل الأمن فى المثلث الحدودي ما بين الأردن وإسرائيل، بالإضافة إلى حسم أى توترات فى مناطق خفض التصعيد، ومن بينها درعا، قبيل جولة مرتقبة لمحادثات آستانا، فضلاً عن تعزيز فرص التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية.
كذلك الوضع فى اليمن، فالمليشيا الحوثية تبنت الهجمات ضد السعودية، وأثبتت بالصور الحية ضلوعها فيها على عكس بعض الهجمات السابقة، على نحو دفع اتجاهات عديدة إلى ترجيح أنها تريد التأكيد على أن لديها هامش استقلال عن القرار الإيراني، وأنها ستواصل التصعيد فى الوقت الذي توجه طهران رسائل تهدئة إلى الخارج مع بداية فترة رئاسة الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي ومن بينها القوى المعنية بالملف اليمني.
أما فى حالة ليبيا، فعلى الأرجح تعمل قوات “جهاز دعم الاستقرار” وفق استراتيجية السيطرة على المجموعات المليشياوية الأصغر، لكن تظل رسالتها الأساسية هى الاعتراض على توصية اللجنة العسكرية المشتركة التي أكدت على ضرورة إعادة هيكلة تلك القوات، بالإضافة إلى قوات مشابهة لمليشيات الردع، وبالتالى تستنزف جهود اللجنة المشتركة فى عملية إعادة الهيكلة الأمنية.
5- استعادة المراحل الأولى للمواجهات: اللافت للانتباه في هذا السياق، أن هناك قاسماً مشتركاً فى التصعيد الذي تشهده هذه الجبهات، يتمثل في أنها تستعيد المراحل الأولى من الصراعات. فالهجمات فى درعا تحمل رمزية للموقع الأول الذي انطلقت منه الأزمة السورية في مارس 2011. في حين أن التوجه مجدداً إلى الجنوب اليمني يعيد إلى الأذهان حرب الجنوب أو معركة عدن ما بين المتمردين الحوثيين والمقاومة الجنوبية، عام 2015. بينما يلقي التصادم بين مليشيات غرب ليبيا الضوء مجدداً على محطة “فجر ليبيا” فى الصراع الليبي. هذه القواسم في مجملها تطرح بالتأكيد العديد من الدلالات التي تكشف أن الأوضاع الأمنية فى تلك المناطق لا تزال هشة، وأن عملية التسوية إما أنها هشة هى الأخرى، كما فى حالة اتفاق درعا، وربما بشكل نسبي فى الحالة الليبية، أو أنها تتعرض لعراقيل من أطراف محددة مثلما هو الحال فى اليمن، حيث لا يسعى المتمردون الحوثيون إلى دعم جهود إنهاء الأزمة الحالية.
نتائج متقاربة
فى المحصلة الأخيرة، ربما يمكن القول إن القواسم المشتركة قد ترتب نتائج متقاربة، حيث يبدو أن هناك استدارة فى مناطق الصراعات تهدف إلى تجاوز أى عمليات تسوية سياسية لتلك الصراعات، بل والعودة بها إلى المربع الأول، ومن ثم فالنتائج كاشفة عن أن التفاعلات الراهنة فى مناطق الصراعات لا تزال قادرة على إعادة تكرار دورة الصراع دون توقف على المديين القريب والمتوسط.