أدوار متباينة:
كيف تتعامل روسيا مع الملفات العربية؟

أدوار متباينة:

كيف تتعامل روسيا مع الملفات العربية؟



تحولت روسيا إلى رقم مهم في الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها في العديد من دول الأزمات العربية، على غرار سوريا وليبيا والعراق، وهو ما يوحي بأنها تسعى من خلال ذلك ليس فقط إلى تعزيز مكانتها كقوة دولية معنية بما يجري في المنطقة العربية، وإنما أيضاً إلى تحقيق أهداف اقتصادية وأمنية لا يمكن تجاهلها، على غرار رفع مستوى العلاقات الثنائية مع العديد من الدول، والمشاركة في عمليات إعادة الإعمار التي يجري النقاش حولها داخل بعض دول الأزمات، وتقليص احتمالات وصول التنظيمات الإرهابية إلى أراضيها أو استهداف مصالحها في المنطقة، فضلاً عن ملء الفراغ المحتمل الذي يمكن أن ينتج عن أى انسحاب عسكري أمريكي من دول مثل العراق وسوريا، مماثل لما حدث في أفغانستان.

مؤشرات مختلفة

نجحت روسيا، في بداية سبتمبر الجاري، في رعاية اتفاق هدنة جديد في درعا جنوب سوريا بين النظام السوري والفصائل المسلحة، يقضي بتسليم مقاتلي الفصائل الذين يرغبون في البقاء أسلحتهم وترحيل من لا يرغب إلى الشمال السوري، مع دخول قوات تابعة للشرطة العسكرية الروسية، إلى جانب اللواء الثامن الذي تدعمه موسكو، لمراقبة تثبيت وقف إطلاق النار.

واللافت في هذا السياق، هو أن قيام روسيا بإتمام اتفاق الهدنة المؤقت توازى مع حرصها على توجيه رسائل لافتة في الملفات العربية الأخرى، على غرار الملفين العراقي والليبي. فعلى الصعيد الليبي، أكدت روسيا، على لسان وزير الخارجية سيرجي لافروف، في 19 أغسطس الفائت، ضرورة “إخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا”، على نحو اعتبرت اتجاهات عديدة أنه يعكس سياسة مزدوجة من جانب موسكو، في ظل الحضور البارز لقوات “فاغنر” الروسية في الصراع الليبي، في حين أشارت اتجاهات أخرى إلى أن روسيا تتبنى السياسة نفسها التي تتبعها قوى إقليمية أخرى، على غرار إيران، وتقوم على دعم ميليشيات مسلحة لخدمة مصالحها في ملفات وأزمات عديدة دون أن تفرض عليها حدوداً للحركة في تعاملها مع التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها تلك الأزمات، وهو ما دفع صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية إلى نشر تقرير، في 23 يونيو الماضي، وصفت فيه قوات “فاغنر” بأنها “جيش بوتين الخفي” الذي ينتشر في دول مثل سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى وأوكرانيا.  

وعلى الصعيد العراقي، بدا أن روسيا تتابع بدقة تطورات الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، بناءً على المعطيات التي فرضها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، حيث بدأت موسكو تشير إلى أن الخطوة التي اتخذتها واشنطن قد تتكرر في دول مثل العراق وسوريا، وهو ما يبدو أنه سوف يدفع موسكو بدورها إلى الاستعداد مسبقاً للتعامل مع التداعيات التي سوف تترتب على ذلك، من بينها التحركات التي سيقوم بها حلفاء واشنطن في كلتا الدولتين لاحتواء أى انعكاسات سلبية قد تفرضها هذه الخطوة المحتملة.

والجدير بالإشارة هنا أن الكسندر لافرنتييف المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا كان قد قال في 9 يوليو الماضي: “أخبرنا الجانب العراقي أن بغداد مصممة على انسحاب الوحدة العسكرية الأمريكية من البلاد. وإذا حدث هذا وسحبت الكتيبة الأمريكية من العراق، فسيصبح الحفاظ عليها في سوريا ببساطة مستحيلاً بسبب الصعوبات اللوجستية”.

وانطلاقاً من التداعيات الإقليمية المحتملة، لاسيما في دول الأزمات العربية، دعت روسيا أكثر من مرة إلى استئناف المفاوضات التي تجري بين إيران ومجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة في فيينا، للوصول إلى تسوية للخلافات العالقة حول الاتفاق النووي، بعد أن توقفت في 20 يونيو الماضي، نتيجة انشغال إيران في إجراء الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة الجديدة.

أهداف عديدة

تسعى موسكو عبر تلك الخطوات إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تكريس الدور السياسي والعسكري: كان لافتاً أن روسيا حرصت على الوصول إلى تسوية لأزمة التصعيد في درعا وفقاً لرؤيتها وحساباتها، التي ربما تتباين، في بعض الأحيان، مع حسابات النظام السوري وإيران. وقد عكس اتفاق الهدنة هذه الرؤية الروسية، لاسيما فيما يتعلق بتسيير دوريات تابعة للشرطة العسكرية الروسية ووقف التصعيد العسكري السوري، الذي قامت به الفرقة الرابعة، مع الاتفاق على قيام مقاتلي المعارضة الراغبين في البقاء بتسليم أسلحتهم وترحيل الآخرين إلى الشمال. ورغم أن هذه التسوية ربما تعكس تغير موازين القوى العسكرية لصالح النظام السوري، فإنها في الوقت نفسه توجه رسائل بأن موسكو، دون غيرها، هى التي تمتلك مفاتيح الحل، على نحو يوحي بأن الخلافات بين الحلفاء حول الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها في سوريا استعداداً للمرحلة المقبلة بدأت تنضج تدريجياً.

2- الاستعداد المبكر للملفات المُؤجَّلة: بدأت روسيا في الاستعداد لفتح ملفات كانت مؤجلة في الفترة الماضية بسبب استمرار الصراعات المسلحة، وبقاء بعض الخلايا الإرهابية التابعة لتنظيمات مثل “داعش” في بعض دول الأزمات. وفي هذا السياق، أبدت روسيا رغبتها في عودة شركاتها للاستثمار في العراق. إذ عقدت اللجنة العراقية- الروسية المشتركة اجتماعاً في 26 أغسطس الفائت، برئاسة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ونائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف، اتفق خلالها الطرفان على الإسراع في تنفيذ المشروعات الكهربائية المتروكة أو المتلكئة والتي تم التعاقد حولها مع الشركات الروسية في السابق، كما ناقشا سبل تطوير تكنولوجيا الزراعة، وتسهيل منح سمات الدخول للمستثمرين، والدبلوماسيين من كلتا الدولتين.

3- المشاركة في عمليات التسوية: تسعى روسيا إلى تعزيز حضورها كطرف رئيسي في الجهود التي تبذل للوصول إلى تسوية للأزمة الليبية. وقد بدا أن موسكو تسعى إلى تحقيق ذلك عبر فتح قنوات تواصل مع العديد من الأطراف المحلية والإقليمية والدولية المعنية بالملف الليبي تحديداً. وفي هذا السياق، دعا الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين خلال لقاءه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، في موسكو في 21 أغسطس الفائت، المجتمع الدولي إلى مواصلة الحوار مع كل الأطراف السياسية التي تتمتع بنفوذ في ليبيا، مضيفاً أن “مؤتمر برلين الثاني الذي انعقد في يناير الماضي بمشاركتهما توصل إلى قرارات أسهمت في تحسين الأوضاع على الأرض في ليبيا”. ومع ذلك، فإن اتجاهات عديدة ترى أن مقاربة موسكو للتسوية في ليبيا تواجه إشكاليتين: أولاهما، أنه رغم سعيها إلى فتح قنوات تواصل مع كل الأطراف، فإنها تواجه اتهامات من قبل قوى إقليمية ودولية عديدة بتبني سياسة منحازة في رؤيتها لتطورات الملف الليبي. وثانيتهما، أن دعوتها لإخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا لم تكتسب اهتماماً ملحوظاً من جانب تلك القوى، ليس فقط بسبب الحضور البارز لقوات “فاغنر” في المشهد الليبي، ولكن أيضاً لانشغال الأطراف المحلية بالاستعداد للانتخابات التي سوف تجري في 24 ديسمبر القادم، والتي سوف يكون لها تأثير مباشر على الترتيبات السياسية في ليبيا خلال المرحلة القادمة.

4- توسيع نطاق التعاون الأمني: تسعى روسيا إلى رفع مستوى تعاونها الأمني مع العديد من دول المنطقة، خاصة في ظل عدم استبعادها محاولة بعض التنظيمات الإرهابية نقل عدد من عناصرها، لاسيما الذين يتحدرون من دول آسيا الوسطى، إلى داخل أراضيها، لتنفيذ عمليات إرهابية، وهو ما يعني أنها تحاول عبر هذا التعاون توجيه ضربات استباقية لمنع تلك التنظيمات من تهديد أمنها واستقرارها، لاسيما في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع العسكري في سوريا لصالح نظام الأسد، وتراجع قدرة تنظيم “داعش” على الاحتفاظ بالمناطق التي سبق أن سيطر عليها واضطر إلى الخروج منها بسبب الضربات والهزائم العسكرية التي تعرض لها. وقد أشارت تقارير عديدة، في 29 يوليو الماضي، إلى أن الأمن الفيدرالي الروسي نجح في تفكيك خلية تابعة لتنظيم “داعش” كانت تخطط لتنفيذ عمليات إرهابية في منطقة تيومين.

5- تجنب نشوب حرب جديدة: ترى موسكو أن الوصول إلى صفقة نووية بين إيران والقوى الدولية تعزز من استمرار العمل بالاتفاق النووي يمثل آلية مهمة يمكن من خلالها تجنب نشوب حرب جديدة في المنطقة، سوف تصل ارتداداتها إلى دول الأزمات، في ظل حضور إيران في تلك الدول. فضلاً عن أنه رغم دعمها الواضح للموقف الإيراني، إلا أن استمرار طهران في تطوير برنامجها النووي ووصولها إلى المرحلة التي تمتلك فيها القدرة على إنتاج القنبلة النووية لا يتوافق مع مصالحها ورؤيتها لتوازنات القوى في المنطقة.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن روسيا سوف تسعى خلال المرحلة القادمة إلى تعزيز حضورها في معظم الملفات الإقليمية إن لم يكن مجملها، ليس فقط لاعتبارات تعزيز الدور، وإنما لعوامل تتصل بمحاولاتها الحصول على مكاسب اقتصادية واحتواء أية تهديدات أمنية قد تتعرض لها مصالحها بسبب اتساع نطاق هذا الدور خلال المرحلة الماضية.