في 29 مايو 1990 عُقدت في بغداد قمة عربية اعتبرها كثير من الساسة والمحللين والمراقبين البداية الفعلية لأزمة الخليج، أي الاحتلال العراقي للكويت في تلك السنة. كان العراق يمر آنذاك بأصعب الظروف بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بسبب التكلفة الباهظة للحرب والضغوط الدولية عليه، وكانت الاستراتيجية الواضحة لرئيسه صدام حسين هي محاولة توريط الجميع، وبالذات دول مجلس التعاون الخليجي في الأزمة.
فالأمة العربية كيان واحد، وما يصيب العراق أولاً سيصيب الجميع لاحقاً، ولأنه لم يكن راضياً عن سلوك دول المجلس بعد الحرب، مع أنها قدمت له دعماً هائلاً أثنائها مكَّنه من إجبار إيران على قبول وقف إطلاق النار، فقد شرع في مهاجمة هذه الدول في كلمته، إلى الحد الذي دفع الرئيس حسني مبارك لإرسال السيد عمرو موسى عضو الوفد المصري في القمة آنذاك برسالة لصدام حسين يطلب منه تأجيل هجومه للجلسة المغلقة.
وبقدر تذكري للمقاطع التي شاهدتها من تلك الكلمة، فلم يقتصر الأمر على كلمات الهجوم، وإنما امتد إلى لغة الجسد، بما في ذلك نظرات العينين النارية التي تنبئ بشر مستطير.
وكان المشهد كله يشي بسمات تلك الحقبة من تاريخ العراق المعاصر التي بدأت بالانقلاب البعثي في عام 1968، والذي كان صدّام حسين رجله الأول، سواء فعلياً حتى عام 1979 أو رسمياً بعد ذلك، وكان يحلم -كما عبّر صراحةً في خطبه- باستعادة الدور التاريخي للعراق، لكن مشكلته تمثلت في عدم إدراكه لأمرين، أولهما طبيعة التغيرات البنيوية التي لحقت بالنظام العربي بعد عام 1973، فتصور إمكان تكرار تجربة الدور القيادي لدولة بعينها، والثاني حدود القوة العسكرية.
وهكذا رد على الاستفزازات الإيرانية بعد ثورة 1979 بحرب مفتوحة كلّفته ما كان يمكن أن يحيل العراق إلى دولة قوية متقدمة، وخرج على مألوف قيم النظام العربي، فكان غزو الكويت بعد تلك القمة بشهرين بكل تداعيات تلك الخطوة المشؤومة لا على العراق فحسب، وإنما على النظام العربي برمته وصولاً إلى الغزو الأميركي للعراق، والذي لم تقف تداعياته عند حد تفكيك الدولة العراقية وتمزيق الشعب العراقي عرقياً وطائفياً، وإنما جعلته ساحة لتصارع نفوذ كل من الولايات المتحدة وإيران.
ولأن هكذا وضع لا يتسق مع تاريخ العراق ومكانته فقد بُذِلت محاولات للخلاص منه واجهت صعوبات حقيقية بطبيعة الحال لأسباب داخلية وخارجية، وتميزت الحكومة العراقية الحالية بالسعي الجاد للخروج بالعراق من النفق المظلم الذي دخله بفعل التصرفات الخاطئة لنظامه السابق والأطماع الإقليمية والدولية في الهيمنة عليه، وتمثل هذا السعي في أمرين واضحين أولهما تقوية البعد العربي في التحركات الخارجية للعراق، سواء بتكثيف الاتصالات والحوار مع دول الخليج العربية أو بالتنسيق الثلاثي مع مصر والأردن، والثاني النأي بالعراق عن أن يكون ساحة للصراع بين قوى إقليمية (أهمها إيران بطبيعة الحال) وعالمية (أهمها الولايات المتحدة)، وهو المعنى الذي جسده مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي في قوله: «تعهدنا بممارسة دورنا الريادي، وتوصلنا بعد سنوات طويلة من الصراعات إلى أن دور بلدنا يكمن في أن يكون إحدى ركائز استقرار المنطقة».
وأكد الكاظمي رفضه استخدام أراضي العراق للصراعات الإقليمية لتهديد أي جهة. وبهذه الروح عُقدت قمة بغداد يوم السبت الماضي، وكان انعقادها بحد ذاته، وبمشاركة قوى إقليمية ودولية ثمة خلافات واضحة بين استراتيجياتها، دليلاً على ذكاء هذا النهج العراقي الجديد، كما أن البيان الختامي للقمة شدد على الترحيب بالجهود العراقية للوصول إلى أرضية من المشتركات مع المحيطين الإقليمي والدولي لتعزيز الشراكات السياسية والاقتصادية والأمنية. صحيح أن الطريق ما زال طويلاً، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فما أبعد الليلة عن البارحة!
نقلا عن جريدة الاتحاد