النزاع على الشرعية: قراءة استشرافية لأفغانستان – الحائط العربي
النزاع على الشرعية: قراءة استشرافية لأفغانستان

النزاع على الشرعية: قراءة استشرافية لأفغانستان



التوقف عند لحظة الانسحاب الأميركي من أفغانستان ولو كانت على طريقة الوجبات السريعة أو محاولة استعجال شرعنة سلوك طالبان وتمدين شعاراتها الجديدة، لا يغني عن قراءة مستقبل هذا البلد الذي شكل مصدر تعقيد كبيراً على مستويات عديدة تبدأ من تأثيرات الفاعلين في السلطة على حياة الناس ولا تنتهي عند تحوله إلى مصدر تهديد أو استثمار سياسي للدول المحيطة به أو المنخرطة بشكل أو آخر في تبني فصيل من دون آخر بسبب التاريخ الطويل من الرعاية السياسية الضارة.

ما حدث في أفغانستان لا يمكن اعتباره سوى نتائج كاشفة لمقدمات طويلة من تحديات محاولة تغيير الوضع الداخلي والاضطرابات التي لا تنتهي بسبب عوامل التطرف والطائفية والفقر والتكاليف الباهظة لأي محاولة تدخل بهدف الإصلاح أو بناء مستقبل جديد… من هنا ولدت مفاهيم مثل الحروب الأهلية الأزلية أو الاضطرابات الدائمة بسبب طريقة المقاربة للحلول إذا ما تجاوزنا موضوع البراغماتية والانتهازية في استغلال موارد البلاد وإمكاناتها والتي تبدو على عكس مفهوم الكيانات المستنبتة «دولة داخل دولة» على غرار «حزب الله» وجماعة الحوثي. تبدو الأطراف الفاعلة في أفغانستان منذ الاحتلال السوفياتي قبل عقود وإلى اليوم دولة «خارج الدولة»، فمصيرها مرتبط بوجود قوة فاعلة سياسية أو اقتصادية أو للأسف الشديد مقاتلة جماعات عابرة للحدود تستوطن أفغانستان وتتماهى مع جغرافيتها الوعرة وشروط العيش فيها لتكوين معسكرات تدريب وملاذات آمنة، وهو ما بدا واضحاً مع أول تهديد من «ولاية خراسان» التابعة لـ«داعش»، والتي أرسلت رسائلها التحذيرية باستهداف قلب الأحداث ومحط أنظار كاميرات وقنوات العالم (مطار كابل) بينما تحاول «القاعدة» التحشيد بعيداً عن الضجيج الإعلامي الذي عرفت عنه «داعش» في محاولة لاستعادة شبكة العلاقات والتحشيد، وهو ما يمكن رصده في مدونات ونشاط التنظيمات على حسابات «السوشيال ميديا» ومواقع الإنترنت وفي الخطاب المضمر والمساند من قبل جماعات الإسلام السياسي التي لا تخفي جذلها وغبطتها بعودة طالبان رغم الاختلاف في النوع والدرجة وليس في الأهداف العامة، محذرة من تفويت الفرصة والاستفادة من دروس الوصول إلى عرش الحكم/ الخلافة!

الملفات تتقاطع اليوم مع إعادة طالبان تموضعها في البلاد كسلطة تحاول تدشين خطاب وسلوك مغاير هو نذر الحرب الأهلية الطويلة داخل تيارات «الجهادوية» المعاصرة والنزاع الذي سيولد حتماً على مسارات النشاط القتالي من إدارة المقاتلين الأجانب، وطريقة تعاطي التنظيمات الإرهابية مع سيطرة طالبان ومحاولة دولنة سلوكها من قبل المجتمع الدولي، ومصير ومآلات المعتقلين وأسرهم ومجتمعاتهم الصغيرة وتفاعل السكان الأصليين مع ما سبق.

نذر الحرب الأهلية أو محاولة استنساخ تجربة «طالبان» في العودة إلى السلطة هو المحتوى الأبرز في خطابات الظل والنقاشات الدائرة في معسكرات الإنترنت للجهادوية، على سبيل المثال «هيئة تحرير الشام» متحفزة تقرأ عودة طالبان بالصبر وانتظار لحظة رحيل القوى الأجنبية، بينما ينتظر المراقبون والخبراء ردة فعل التيار العريض «تنظيم القاعدة» خصوصاً مع حلول ذكرى 11 سبتمبر (أيلول) ، وفي رأيي أن «القاعدة» على خلاف تنظيم «داعش» تراقب سلوك طالبان أكثر من القوى الغربية أو جهة أخرى، خصوصاً في ملف المعتقلين، وتليها إيران حيث يرتقب ملالي طهران أي إشارات إيجابية رداً على غبطتهم بما يصفونه بهزيمة «الشيطان الأكبر» وهو ما يحتل المساحة الأكبر من المقاربة الإيرانية.

مخاوف العقلاء في المنطقة ومن خبروا تاريخ المنعطفات الحادة في أفغانستان، هي اندلاع حروب أهلية وحروب امتلاك الشرعية بين التنظيمات المتطرفة وعودة البلاد إلى مربع العنف.

والحال أن التاريخ الطويل لانبعاث وتجدد نشاط التنظيمات المتطرفة ما بعد الانسحاب من مناطق التوتر ينعش استراتيجية ما يمكن تسميته «تبادل الأدوار» بين التنظيمات المقاتلة، خصوصاً في طريقة تعاطيها السياسي مع الأحداث المتغيرة الذي يخضع عادة إلى الواقعية الحذرة مع المتغيرات على الأرض. كلنا يتذكر على سبيل المثال ما حصل لتنظيم «داعش» الذي انكمش بشكل كبير بعد أن بات محط أنظار القوى الغربية والإعلام والمجتمع الدولي والضغوطات الهائلة على حرمان تلك التنظيمات من الادعاء والظهور كسلطة نافذة أو ما يشبه الدولة وإهمالها في حال نشاطها داخل المجتمعات النائية، كما هو الحال مع تنظيم «القاعدة» في شمال وغرب أفريقيا القارة التي شكلت ملاذاً ومنطقة تمدد للتنظيمات والمجموعات الإرهابية، خصوصاً بعد التركيز على ملاحقتها مع الحملة الدولية ضد الإرهاب في مناطق التوتر بالعراق والشام والمناطق الحدودية في أفغانستان.

حسم معركة الشرعية بين طالبان وخصومها الأكثر تحدياً وإرهاقاً لها من الدول الغربية أو الحدودية مرتبط بالأساس بالقدرة على التغيير وضبط التمويل وتدفق المقاتلين وحماية السكان وطمأنتهم؛ ليس بفرض القوة الأمنية وإنما بالحوار الحقيقي بعيداً عن شاشات الكاميرات والتصريحات الناعمة… عدا ذلك ستعود كابل إلى ما لا يتمناه أحد؛ العود الأبدي للعنف ضد الذات والآخر.

نقلا عن الشرق الاوسط