شهدت تركيا ارتباكًا في عملية صنع القرار المتعلق بملفات متنوعة، على مدار الفترة الماضية، وهو ما انعكس في تخبّط السياسة النقدية، والتعامل مع أزمة حرائق الغابات، إضافةً إلى الإصرار على المضيّ قدمًا في مشروع قناة إسطنبول رغم مخاطره المتوقعة. وقد كان لافتًا أن التدهور الحادث في الاقتصاد كان أحد الأسباب التي ساهمت في وصول تركيا إلى قمة مؤشر “البؤس الاقتصادي”، الذي أعده حزب الشعب الجمهوري التركي، بعد أن حققت أعلى نقطة في المؤشر في السنوات الأخيرة بمعدل 32.2 نقطة؛ بمزيدٍ من تفاقم الأوضاع المعيشية في البلاد التي تعاني بالأساس من تحديات مالية واسعة، ناهيك عن تصاعد معدلات البطالة والتضخم.
لم ينعكس ارتباك السياسة التركية على الأوضاع الاقتصادية للدولة فحسب؛ بل ارتبط بمحاولة القفز على أزمة حرائق الغابات التي شهدتها تركيا، وتوظيفها لمصلحة النظام الحاكم. وكشفت تعليقات المسؤولين الأتراك على الحرائق التي اندلعت بصورة متزامنة، وفي أماكن مختلفة، عن رغبتها في تسييس أزمة الحرائق، وتوظيفها في خدمة دوافع سياسية وانتخابية للرئيس “رجب طيب أردوغان”. وزادت الرغبة في تسييس المشهد مع استمرار الحرائق في ظل محاولات قاصرة لإخمادها. وفي سياق اعتماد التفسير التآمري للحرائق قال الرئيس “أردوغان”، في تصريحات له في 30 يوليو الماضي، إن “الموضوع ليس صدفة، فقد بدأت الحرائق في وقت واحد تقريبًا في أكثر من محافظة في الجنوب التركي”.
التخبط في إدارة الأزمات وتطويعها لمصلحة النظام الحاكم، لم يقتصر على ما سبق، فمع اقتراب موعد الانتخابات العامة التركية المقرر لها عام 2023، وفي ظل مطالبات من قوى المعارَضة بإجراء انتخابات مبكرة؛ يمكن فهم مجموعة “المشروعات القومية” التي تعمل عليها أنقرة، مثل مطار وقناة إسطنبول، في إطار معالجة الاستقطاب السياسي في الداخل التركي، وتدعيم شعبية الرئيس التركي وحزبه. ويصر الرئيس التركي على مشروع قناة إسطنبول متجاهلًا آراء الخبراء، ورؤى المعارضة السياسية، الذين حذروا من مخاطر المضيّ قُدمًا في مشروع حفر قناة إسطنبول لأسباب سياسية واقتصادية وبيئية.
ارتباك سياسات النظام الحاكم في تركيا تجاه التعامل مع الأزمات التي تشهدها البلاد، والإصرار على الاستثمار السياسي فيها لمصلحة الحزب الحاكم في سياق محاولات تعويض التآكل الحادث في رصديده التقليدي؛ أفضى إلى تعظيم التجاذبات السياسية بين النظام والمعارضة، خاصة أن الثانية أعلنت معارضتها للتوجهات الحكومية حيال الأزمات التي يشهدها الداخل. فمن جهة رفضت الإجراءات التقليدية في معالجة الاختلالات المالية، وطالبت بإقصاء الرئيس عن التدخل في السياسة النقدية، وتولي أهل الثقة إدارة الملف الاقتصادي. كما كانت المعارضة التركية بجانب تصديها لمشروع قناة إسطنبول، هي التي كشفت فشل الاستعداد والخطط المنفذة في التعامل الحكومي مع كوارث الحرائق، وذكّرت المعارضة بكوارث الزلازل السابقة التي راح ضحيتها الآلاف إثر تعثّر جهود الإنقاذ.
ختامًا، يُرجَّح مما سبق أن يؤدي التعامل السلبي لحكومة العدالة والتنمية مع الأزمات التي يشهدها الداخل التركي، والمضيّ قدمًا في تفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحات الرئيس “رجب طيب أردوغان” الذي يراهن على البقاء في صدارة المشهد حتى عام 2023؛ إلى مضاعفة الاستقطاب السياسي القائم في تركيا، فالنظام التركي يندفع دائمًا نحو مواجهة الخصوم بتشويه صورتهم الذهنية، وإعمال نظرية المؤامرة في تفسير الأزمات التي يفشل في التحايل عليها. غير أن استمرار مراهنة النظام التركي على خطاب المؤامرة، وتجاهل معطيات الواقع الاقتصادي المؤلم، والآثار الكارثية الناجمة عن حرائق الغابات، وتلك المحتملة مع بدء العمل في حفر قناة إسطنبول؛ سيؤدي إلى مفاقمة الأوضاع الداخلية، خصوصًا أن ثمة مؤشرات باتت كاشفة عن عمق حالة التشظي السياسي في البلاد، ناهيك عن الارتدادات السلبية للأزمة الاقتصادية، وبخاصة زيادة معدلات الفقر وتدهور الأحوال المعيشية، وهو ما يتناوله الملف بالتفصيل.