مداخل متنوعة:
كيف تصاعد التفكير التآمري في تشخيص أزمات الشرق الأوسط؟

مداخل متنوعة:

كيف تصاعد التفكير التآمري في تشخيص أزمات الشرق الأوسط؟



تزايد اللجوء إلى نظرية المؤامرة من جانب بعض الحكومات في الشرق الأوسط كمدخل مُفسِّر لمعظم الأزمات أو المشكلات أو المهددات التي تواجهها، سواء داخلية أو خارجية، دون النظر الى الأسباب التي دفعت إليها والظروف التي فرضتها. وعلى الرغم من أن هذا النمط من التفكير ليس جديداً، بل يظهر في توقيتات زمنية ترتبط بهزائم أو كوارث أو تحديات تعرضت لها دول الإقليم، مما يستدعي البحث عن “الخارج” أو “الآخر”، الذي يبقى دوره منحصراً في الاختراق السياسي والاستنزاف الاقتصادي والغزو الثقافي والتدمير النفسي والاحتلال بل و”الانسحاب” العسكري.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن المؤامرة قائمة طوال الوقت في عالم النظم السياسية والعلاقات الدولية، بل حدث تحول من المساحات الخفية إلى المؤامرات العلنية، الأمر الذي يفرض على دول الإقليم امتلاك آليات محددة لمنع وقوع تلك المؤامرات أو تقليص خطرها على أمن الدول واستقرار المجتمعات وتماسك الاقتصاديات وتقوية الهويات. إلا أن الإيمان بمقولات ونتائج تلك النظرية يغري الحكومات بل والنخب للاستعانة بها بشكل مستمر. ومن ثم، يمكن القول إن هناك مجموعة من المداخل المُفسِّرة لانتشار تلك النظرية في الإقليم، على لسان رؤساء دول أو حكومات أو برلمانات أو هيئات لإدارة الأزمات، وذلك على النحو التالي:

إزاحة المسئولية

1- إبعاد التقصير عن أداء النخب السياسية الحاكمة: وهو ما يرتبط بالأزمات العديدة التي تواجهها بعض الدول العربية، سواء تعثر تشكيل الحكومات أو سوء إدارة الأوضاع الاقتصادية أو تزايد الانقسامات المجتمعية. وتبرز الحالة اللبنانية في هذا السياق، حيث دعا الرئيس اللبناني ميشال عون، في بيان على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” في 31 يوليو الفائت، ضباط الجيش اللبناني إلى الوقوف في وجه المتآمرين على أمن لبنان في الداخل والخارج، وهو ما يعكس التفكير التآمري السائد في الذهنية الحاكمة على الرغم من مسئولية النخبة السياسية اللبنانية الحاكمة عما صارت إليه أوضاع لبنان.

وكذلك الحال بالنسبة للخطاب الرسمي التركي، الذي يطرحه الرئيس رجب طيب أردوغان وبعض أركان حكومته ومستشاريه في تفسيرهم لأية أزمات تواجهه شخصياً وكذلك بلاده، ولعل آخرها أزمة الحرائق التي ضربت بعض الغابات. لذا، وجهت أحزاب المعارضة التركية انتقادات لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم الذي يقوده أردوغان بالاهتمام بالبنى التحتية في العاصمة أنقرة واسطنبول، ثاني كبرى مدن البلاد، مقابل تجاهل المناطق الأخرى التي ساهم الإهمال في خسارتها لمساحات خضراء شاسعة بعد الحرائق التي عجزت السلطات المحلية فيها عن السيطرة عليها لاسيما في ظل ضعف خدمة إطفاء الحرائق في الغابات.

وكذلك الحال بالنسبة لحركة النهضة في تونس، التي استدعت نظرية المؤامرة لتفسير القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو الفائت، إذ اعتبرت أنها لا تتعلق بالحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار، وإنما تهدف إلى إقصاء النهضة من المشهد السياسي، على الرغم من أن سلوك النهضة وسوء إدارة الحكومة وعوامل أخرى هو ما دفع الرئيس سعيّد لاتخاذ قرارات مفصلية تجنباً لمسارات مخيفة وفقاً لأسوأ سيناريو محتمل.

تعقيدات الانتقال

2- بقاء ملفات ضاغطة مؤثرة على إدارة المراحل الانتقالية: ولعل ذلك ينطبق على الوضع الذي يواجه حكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، إذ قال الأخير أمام البرلمان الليبي في 9 مارس الماضي: “إن هناك نحو 20 ألف مرتزق في ليبيا وهو ما يحتاج إلى تواصل مع كافة الأطراف لإخراجهم”، مضيفاً: “يجب التفكير بحكمة لحل هذه الأزمة في ظل وجود أطماع في ليبيا”. وعلى الرغم من مرور خمسة أشهر على هذا التصريح، لازالت مشكلة المرتزقة قائمة نظراً لتوظيف تركيا هذا الملف لترسيخ نفوذها داخل ليبيا والاستفادة بعقود إعادة الإعمار والتلويح بورقة اللاجئين لبعض دول الاتحاد الأوروبي. ولذا، يبقى منطق المؤامرة قائماً في هذه الحالة.

خلافات الأجنحة

3- منع أية محاولات لانقسام المكونات/ الأجنحة العسكرية: الأمر الذي يتضح جلياً في حالة السودان في ظل أحاديث متواترة من بعض وسائل الإعلام عن خلافات بين الجيش من ناحية وقوات الدعم السريع التي يقودها الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” من ناحية أخرى، بما قد يهدد استعادة الاستقرار بعد سقوط نظام البشير. وفي هذا السياق، أكد رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، لدى مخاطبته قوات الدعم السريع في 26 يوليو الفائت، على أن “الجيش وقوات الدعم السريع قوة واحدة، وأنها لن تترك ثغرة لمن يريد إثارة الفتن والمكائد وسط القوات النظامية”، مضيفاً أن “قوتنا في وحدتنا، ونريد أن تصل هذه الرسالة لكل منسوبينا في كل مكان”، وأضاف البرهان: “طالما أن الجيش وقوات الدعم السريع موحدة ومتفقة، فلن تضار البلاد من شيء، وواجبنا وهدفنا حماية وحراسة هذه البلاد”.

عداوة الجغرافيا

4- توظيف الخلافات السياسية مع بعض دول الجوار الجغرافي: تستند بعض حكومات الإقليم إلى وجود خلافات مستدامة مع بعض دول الجوار لتبرير الإخفاقات التي تتعرض لها بين الحين والآخر، وهو ما يعبر عنه الخطاب الرسمي الجزائري في استدعاء الدور “المغربي” لتفسير أية أزمات تواجهها الجزائر وصرف الأنظار عن الضغوط الاقتصادية والمعيشية الداخلية، وهو ما يرتبط بالتصورات الذهنية لنخب الدولتين بأنهما يمثلا مصدر تهديد للأمن الوطني للدولة الأخرى لاسيما في ظل دعم الجزائر لجبهة البوليساريو والإشارة إلى تأييد المغرب لمطلب بعض القبائل الداعية للانفصال عن الجزائر. إذ أدانت وزارة الخارجية الجزائرية ما وصفته بـ “الانحراف المغربي الخطير”، قائلة إن التصرف الأخير للممثلية الدبلوماسية المغربية في نيويورك يعد “مؤامرة تحاك ضد وحدة الأمة الجزائرية”.

وقالت وزارة الخارجية في بيان لها في 16 يوليو الفائت: “قامت الممثلية الدبلوماسية المغربية بنيويورك بتوزيع وثيقة رسمية على جميع الدول الأعضاء في حركة عدم الانحياز، يكرس محتواها بصفة رسمية انخراط المملكة المغربية في حملة معادية للجزائر، عبر دعم ظاهر وصريح لما تزعم بأنه حق تقرير المصير للشعب القبائلي” الذي، حسب المذكرة المذكورة، “يتعرض لأطول احتلال أجنبي”. كما قال رئيس مجلس الأمة الجزائري صلاح قوجيل، في 9 مايو الماضي في حوار مع صحيفة “ليكسبريسيون” الجزائرية، أن “هناك استهدافاً للجزائر من لدن المغرب، الذي يستعمل إسرائيل كفزاعة” وأن “التقارب المغربي الإسرائيلي يؤكد تشابه البلدين في احتلال أراضي غيرهما”.

غضب الطبيعة

5- صعوبة التعامل المفاجئ مع أزمات الطبيعة: تواجه دول العالم بشكل عام تغيرات مناخية ضاغطة، متمثلة في ازدياد معدلات فيضانات وارتفاع درجات الحرارة بشكل يجعل المناخ أقرب إلى “العدو” الذي لا يمكن السيطرة عليه، وهو ما تعكسه الحرائق التي التهمت مساحات شاسعة من الغابات في عدد من دول الإقليم، مثل الجزائر وتونس ولبنان وتركيا وإسرائيل، والتي وصلت ألسنتها إلى بعض السكان، مُخلِّفة خسائر بشرية ومادية، الأمر الذي يبدو جلياً في التصريحات الرسمية داخل تلك الدول.

فعلى سبيل المثال، قال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في خطاب إلى الشعب في 13 أغسطس الجاري: “إن أغلب الحرائق التي اجتاحت مناطق من البلاد، وأسفرت عن وقوع عشرات الضحايا، كانت من فعل أيادٍ إجرامية”، مضيفاً: “جددنا كل إمكانياتنا البشرية والمادية لمواجهة الحرائق التي لم يعرفها الوطن منذ عشرات السنين”. وأكد رئيس أركان الجيش الفريق سعيد شنقريحة، في 19 أغسطس الجاري، أن “تلك الحرائق كانت عينة من مؤامرة شاملة”، مضيفاً أن “الدولة عقدت العزم على إفشالها”.

كما اعتبر الرئيس التونسي قيس سعيّد، خلال إشرافه على اجتماع اللجنة الوطنية لمجابهة الكوارث في 13 أغسطس الحالي، “أن هناك حرائق طبيعية وأخرى مفتعلة، وأن الذي يشعل النيران سيحترق بألسنتها لأن ذلك يرتقي إلى مرتبة الجريمة”، مؤكداً أن “القوات المسلحة التونسية والأمنية ستتصدى لمن يريدون إحراق الغابات والحقول لأنهم يريدون التنكيل بالشعب”. وفي سياق متصل، قال الناطق باسم الحماية المدنية في تونس معز بوتريعة أنه “غير مستبعد أن تكون الحرائق مفتعلة نظراً لتوقيت اندلاعها والمناطق التي اندلعت فيها وتقاربها زمنياً وحدوثها في توقيت متأخر من الليل”، واتفق معه رئيس مصلحة حماية الغابات في تونس زهير بن سالم بأن معظم الحرائق التي نشبت في تونس، أخيراً، “كانت بفعل فاعل”.

ولم تختلف صيغة الحكومة الإسرائيلية عن تصورات بعض الحكومات العربية في تشخيصها لأزمة الحرائق، حيث أعرب محققو مصلحة الإطفاء في إسرائيل، في تصريحات صحفية في 17 أغسطس الحالي، عن أن “الحرائق التي تجددت في غابات القدس تمت بفعل فاعل، عمداً أو من غير قصد”، ودعت الشرطة إلى التحقيق في الأمر لمعرفة الفاعلين، بعد تضرر المنازل والممتلكات الخاصة. كما أعلنت وكالة أنباء “الأناضول” الرسمية عن إحباط السلطات التركية مطلع أغسطس الجاري، محاولة لافتعال حريق في غابة تقع بالقرب من ثكنة عسكرية في ولاية إزمير الواقعة غربي البلاد، ورغم ذلك لم يتمكن رجال الشرطة من إلقاء القبض على أولئك الذين كانوا يحاولون إشعال النيران في غابات تلك المنطقة.

دروس أفغانستان

6- تسارع التحولات السائلة في المناطق المضطربة: وهو ما تعكسه الحالة الأفغانية بعد سيطرة سريعة لحركة طالبان على السلطة عقب سقوط معظم المحافظات، وهروب الرئيس أشرف غني وانهيار الجيش الأفغاني، الأمر الذي طرح عدة تفسيرات تآمرية ومنها اتفاق إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع قيادات حركة طالبان على تسلم السلطة في مقابل إجلاء الرعايا وعدم استهداف السفارة، بل طرح البعض إمكانية خروج واشنطن لتتورط قوى دولية وإقليمية في المستنقع الأفغاني، وخاصة موسكو وبكين وطهران، مع الأخذ في الاعتبار وجود أبعاد أخرى للانسحاب مثل التكلفة المالية والخسائر البشرية للبقاء، والتوقيع المسبق على الانسحاب في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ووجود أشكال أخرى محتملة لبقاء واشنطن، على نحو يعكس عدم الفجائية من قرار بايدن بالانسحاب، فضلاً عن تمكن حركة طالبان من تطوير قدراتها الذاتية للعودة إلى السلطة بعد عقدين من الزمن.

القابلية للتصديق:

خلاصة القول، إن هناك حالات مختلفة تعكس انتشار التفكير بمنطق المؤامرة بشكل اكتساحي في الشرق الأوسط، لاسيما في ظل بيئة سياسية ومجتمعية قابلة لتصديق ما تطلقه الحكومات، رغم مسئولية تلك النخب عن الأزمات التي تتعرض لها دولها، ومنها أزمة حرائق الغابات، وإن كانت هناك اتجاهات تعكس وجود مؤامرة فعلية لاستيلاء قوى إقليمية على ثروات اقتصادية لدول مثل ليبيا، وتوريط قوى خارجية في مستنقع أزمات مثلما عكسه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي ستمتد تأثيراته إلى الشرق الأوسط عاجلاً أو آجلاً.