دبلوماسية التجسس:
كيف تستخدم أنقرة سفاراتها بالخارج لملاحقة المعارضين؟

دبلوماسية التجسس:

كيف تستخدم أنقرة سفاراتها بالخارج لملاحقة المعارضين؟



تواترت التقارير، خلال السنوات الأخيرة، حول تصاعد اتجاهات توظيف البعثات الدبلوماسية التركية في التجسس على المعارضين الأتراك في الخارج، ومحاولة تلفيق قضايا لهم، يمكن الاستناد عليها في بدء إجراءات قضائية ضدهم. إذ تنامى استخدام السفارات والقنصليات التركية لاختراق هياكل وتجمعات معارضي الرئيس “أردوغان” فضلًا عن تشويه الصورة الذهنية للخصوم من خلال اتهامهم بالانتماء لعضوية جماعة إرهابية، سواء كانت حركة “غولن” المتهمة بتدبير الانقلاب الفاشل قبل خمس سنوات، أو منظمة حزب العمال الكردستاني التي تصنفها أنقرة إرهابية، أو تعقب السياسيين الأجانب من أصول كردية أو تركية.

تمدد الشبكات

كشف تقرير صادر عن موقع “نورديك مونيتور” NORDIC MONITOR السويدي، في 13 أغسطس الماضي، عن وثائق تشير إلى تمدد شبكات التجسس التركية في الخارج، وبخاصة في دول أوروبا، وآخرها قيام السفارة التركية في العاصمة الإيطالية روما بالتجسس على مواطنين أتراك في الخارج، وإرسال قائمة بشأنهم إلى الجهات القضائية في أنقرة. وأضاف الموقع أن هناك “أنشطة تقوم بها البعثات الدبلوماسية التركية في كل من سويسرا وألمانيا واليونان وبلجيكا والهند وكولومبيا لجمع معلومات عن الأتراك ضمن حملة تجسس”. وتَوَازَى ذلك مع إشارات سابقة لبعض الدول الأوروبية إلى تحركات لعناصر تركية بغطاء دبلوماسي تعمل لحساب حزب العدالة والتنمية الحاكم بهدف مراقبة معارضي النظام وتتبُّعهم، وظهر ذلك في عام 2018، عندما فتح النائب العام السويسري تحقيقًا جنائيًا بشأن عمليات تجسس قام بها الدبلوماسيون الأتراك على الجالية التركية الموجودة هناك.

ويبدو أن تركيا منذ الانقلاب الفاشل في صيف 2016 بدأت في تكثيف نشاط بعثاتها الدبلوماسية للتجسس على المواطنين الأتراك في الخارج، وهو ما لا يمكن فصله عن حرص النظام على ممارسة ضغوط من أجل تقزيم الأصوات المضادة له في الخارج، وهي ضغوط تشارك فيها البعثات الدبلوماسية، والمنظمات الأهلية الممولة من حكومة أنقرة، والأذرع الدينية التي تُشرف عليها رئاسة الشؤون الدينية التركية، وفي الصدارة منها الاتحاد الإسلامي التركي “ديتيب”.

أبعاد مترابطة

بالرغم من نفي النظام التركي لما أورده موقع “نورديك مونيتور”، إلا أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها اتهام تركيا بالتجسس على معارضي الخارج، ولا سيما من قبل الدول الغربية، وهو ما يُمكن توضيحه فيما يلي:

1- ملاحقة أنصار غولن في أوروبا: لم تكن الوثائق التي كشف موقع “نورديك مونيتور” هي الأولى من نوعها. ففي يناير 2019، نشر موقع “نورديك مونيتور” وثائق سرية تؤكد أن تركيا قامت بأنشطة تجسس غير قانونية من خلال توظيف الشرطة المكلفة بحراسة البعثات الدبلوماسية التركية في عشرات الدول الأوروبية، من أجل التجسس على الخصوم. ونشر الموقع في ذلك الوقت وثيقة أرسلتها مديرية المخابرات بالشرطة التركية إلى القضاء، تتحدث عن “نشاط غير قانوني” لعناصر تتبع الشرطة التركية في البعثات الدبلوماسية الخارجية، تقوم بالتجسس على أنصار رئيس حركة “خدمة” في 67 دولة أجنبية.
وفي سياق متصل، كشف الموقع، في يوليو 2020، عن وثائق سرية تشير إلى تجسس السفارة التركية في العاصمة الكندية أوتاوا على عناصر حركة “غولن” منتقدي الرئيس التركي في كندا من الصحفيين والمواطنين المناهضين لسياسات الحزب التركي الحاكم. ووفقًا للمراسلات الرسمية التي أرسلتها السفارة التركية في أوتاوا إلى المقر الرئيسي في أنقرة، قام الدبلوماسيون الأتراك بجمع معلومات عن أنشطة المعارضين لأردوغان، وتوصيف منظماتهم وسرد أسمائهم. وفي مايو الماضي، كشف الموقع نفسه عن وثائق تشير إلى أن السفارة التركية في ألبانيا انخرطت في حملة لجمع المعلومات والتجسّس على أتباع حركة “خدمة”. كما أشارت الوثائق القضائية إلى أن السفارة التركية في تيرانا جمعت معلومات عن أشخاص يُعتقد أنهم مطلوبون للقضاء التركي بتهمة الانتماء إلى جماعة “غولن”.

2- تتبع عناصر حزب العمال الكردستاني: قادت السفارات التركية طوال السنوات التي خلت، وبخاصة في بلغاريا والنمسا وألمانيا، حملة تجسس واسعة النطاق على عناصر حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا في تركيا، حيث كشف موقع “نورديك مونيتور” في سبتمبر 2020 عن تورط البعثة الدبلوماسية التركية في العاصمة البلغارية صوفيا في عمليات تجسس على عناصر كردية. والواقع أن عمليات التجسس ضد الأكراد ممتدة منذ عدة سنوات، ففي عام 2016، أعلن مكتب الادعاء الاتحادي الألماني أن الشرطة الألمانية ألقت القبض على رجل يُشتبه في تقديمه معلومات عن الأكراد المقيمين في ألمانيا للبعثة الدبلوماسية التركية في برلين. كما رصد المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة في ألمانيا، في مارس الماضي، نحو 24 تهديدًا لمنتقدين للحكومة التركية مقيمين في ألمانيا معظمهم من الأكراد.

3- تعقب السياسيين الأجانب: ظهرت في الآونة الأخيرة ضغوط تشاركت فيها هيئات أمنية ومنظمات أهلية في دول أوروبية، طالبت بوضع الاعتبارات الأمنية كأولوية على المصالح الاقتصادية المشتركة بين تلك الدول وتركيا، وذلك بسبب تصاعد مخاطر أنشطة تجسس تقوم بها البعثات التركية في عديدٍ من الدول الأوروبية. ولم تقتصر أنشطة التجسس التي تُمارسها أنقرة على خصوم النظام في الخارج، بل امتدت لتشمل سياسيين ألمانًا وبرلمانيين نمساويين من أصول كردية وتركية، وهو ما كشف عنه قيام سلطات إنفاذ القانون في فيينا في سبتمبر 2020 باعتقال تركي مقيم في النمسا للاشتباه في نقله بيانات ومعلومات عن سياسيين نمساويين إلى السفارة التركية في فيينا.

أهداف رئيسية

ثمة أهداف عديدة تسعى تركيا إلى تحقيقها عبر توسيع نطاق شبكات التجسس التي تقوم بها بعثاتها الدبلوماسية في الخارج، وتتمثل أهم هذه الأهداف فيما يلي:

1- تسهيل الملاحقات الجنائية للخصوم: تستهدف البعثات الدبلوماسية التركية، المنوط بها التجسس على المعارضين في الخارج، تثبيت اتهامات بحق خصوم النظام، لتوفير بيئة خصبة لإطلاق الملاحقات الجنائية ضدهم، سواء بتهم الإرهاب، أو السعي لقلب نظام الحكم. فعلى سبيل المثال، فتح المدعي العام التركي في عام 2018 تحقيقات بشأن 16 تركيًّا في الخارج مدرجين بملفات تجسس أرسلها دبلوماسيون أتراك، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية.

2- تثبيت هيمنة حزب العدالة والتنمية: يتعرض الحزب الحاكم في تركيا لتآكل في رصيده التقليدي، ليس فقط في الداخل التركي، ولكن أيضًا وسط قواعده الانتخابية في الخارج، وبخاصة في الدول الأوروبية حيث يتركز العدد الأكبر من الجاليات والمهاجرين الأتراك، وذلك بفعل التباطؤ الاقتصادي، وتأميم المجال العام، وتدهور السياسة الخارجية التركية، والتي كشف عنها التوتر الحادث في العلاقات التركية الأوروبية. في هذا السياق، يسعى النظام التركي إلى تجنيد البعثات الدبلوماسية التركية في الخارج كذراعٍ لدعم النظام من جهة، واستثمار حصانة هذه البعثات في ملاحقة الخصوم، وتشويه الصورة الذهنية للمعارضين في الخارج من جهة أخرى.

في المقابل، تستهدف عمليات التجسس على المعارضين في الخارج عبر البعثات الدبلوماسية قطع الطريق على معارضي الخارج لبناء تكتلات سياسية طالما سعت إلى فضح الممارسات السلطوية للنظام التركي، وتوظيفها في تعزيز الضغوط الإقليمية والدولية على الرئيس “أردوغان” إضافةً إلى إفساد رهانات بعض أجنحة المعارضة في الداخل التركي على قواعد انتخابية لافتة لها في الخارج، وبخاصة حزب الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي للأكراد) الذي يحظى بشعبية معتبرة في أوساط الناخبين الأتراك في ألمانيا والنمسا وقطاع واسع من دول أوروبا.

3- تفادي تهديدات الجمهورية الأردوغانية: يبذل الرئيس “أردوغان” قصارى جهده لبناء الجمهورية التركية الثانية، خاصة مع اقتراب حلول المئوية الأولى لجمهورية “أتاتورك” في عام 2023. وتتزامن الجمهورية الأردوغانية المنتظرة مع رفض قطاعات واسعة في المجتمع الدولي السياسات الإقصائية في الداخل التركي، وتكريس الرئيس التركي حكم الفرد، في ظل إحكام سيطرته على مفاصل الدولة حتى أصغر شأن فيها. كما زاد الشعور بالخوف على الجمهورية الأردوغانية مؤخرًا نتيجة صعود زخم خصوم النظام التركي في الخارج.

وكشف عن ذلك مؤشرات عدة، أولها تصريحات الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في سبتمبر الماضي، عندما أكد أنه سيعوّل على المعارضة في الدعم من أجل “تغيير الحكم في تركيا” ولتحقيق “الديمقراطية”. وثانيها، الارتدادات العكسية لتصريحات زعيم المافيا التركي “سادات بكر”، التي فضح فيها ممارسات النخبة الحاكمة، وكشف فساد وزراء حكومة العدالة والتنمية ودائرة الرئيس، وهو ما ساهم بصورة جلية في تعزيز مصداقية انتقادات معارضي الخارج للنظام، ونخبته الضيقة. وبناءً عليه، فإن الشعور الدائم بالخوف من عدم اكتمال الجمهورية الأردوغانية الجديدة، قد ساهم في تعزيز دور البعثات الدبلوماسية التركية واستغلالها للتجسس وأعمال الملاحقة للخصوم، وذلك لخدمة أهداف النظام.

تأثيرات سلبية

ختامًا، يمكن القول إن اتجاهات عديدة ترى أن التوظيف التركي للبعثات الدبلوماسية في الخارج للتجسس على الخصوم وملاحقة المعارضين، قد يعظم من التأثيرات السلبية لعلاقات تركيا مع محيطها الإقليمي والدولي. كما أن إصرار النظام على استثمار السفارات والقنصليات في الخارج لتتبع العناصر التي تمثل جناح ممانعة للرئيس التركي “أردوغان”، سوف يضع واقع نظام الحكم للعدالة والتنمية ومستقبله أمام عقبات صعبة خلال المرحلة القادمة، وهو احتمال يبدو قويًا في ظل المؤشرات التي تكشف عن تصاعد الانتقادات الغربية لاستخدام تركيا بعثاتها الدبلوماسية كأذرع خفية لملاحقة المعارضين.