دائرة الموت:
كيف تؤثر قائمة اغتيالات المعارضين على العلاقات التركية الأوروبية؟

دائرة الموت:

كيف تؤثر قائمة اغتيالات المعارضين على العلاقات التركية الأوروبية؟



تواترت التقارير مؤخرًا عن قائمة اغتيالات تركية، تضم أسماء عشرات المعارضين الأتراك في دول أوروبية، من بينها ألمانيا. ورغم أن السلطات الألمانية لم تنتهِ بعد من التحقيق الذي شرعت فيه للوقوف على مدى صحة القائمة المذكورة؛ فإن علامات استفهام عديدة تلوح في الأفق حول مدى قدرة النظام التركي، بحسب هذه التقارير، على استهداف المعارضة في الخارج، ومستقبل المعارضين الأتراك المقيمين في أوروبا، كما تثور الكثير من التساؤلات بشأن الانعكاسات المحتملة للواقعة على مستقبل العلاقات التركية الأوروبية بشكل عام، والعلاقات التركية الألمانية على وجه الخصوص.

تهديد المعارضين

كشفت السلطات الألمانية مؤخرًا عن “قائمة اغتيالات” تستهدف 55 معارضًا تركيًّا في أوروبا، من بينهم صحفيون ومعارضون مقيمون في ألمانيا، وأعقب ذلك صدور بيان من الحكومة الألمانية يوم 26 يوليو 2021، أكَّدت فيه أن المسألة قيد التحقيق. كما أصدرت وزارة الخارجية الألمانية بيانًا في اليوم ذاته، شدَّدت خلاله على “دعم الحكومة الاتحادية لحرية الصحافة والتعبير في جميع أنحاء العالم، وإدانة جميع أشكال العنف ضد الصحفيين”، مضيفة أنه “يجب التأكد من أن جميع الأشخاص الذين يعيشون في ألمانيا -مهما كانت دوافعهم- لا يتعرضون للعنف”. هذا وأشار البيان أيضًا إلى أن وزارة الخارجية طالما دعمت حقوق الصحفيين في تركيا، مؤكدًا أن ملف تراجع حرية التعبير والصحافة في تركيا كان حاضرًا باستمرار على طاولة المفاوضات خلال اللقاءات الثنائية مع الجانب التركي، وفي إطار الاتحاد الأوروبي والمحافل الدولية متعددة الأطراف.

ودعا اتحاد الصحفيين الألمان الحكومة الألمانية إلى اتخاذ إجراءات في مواجهة التهديدات والاعتداءات المتزايدة ضد الصحفيين الأتراك المعارضين المقيمين في البلاد، وناشد رئيس الاتحاد، فرانك أوبيرال، وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس” باستدعاء السفير التركي لدى ألمانيا؛ للوقوف على ملابسات القضية، وإيصال رسالة إلى تركيا مفادها أن “مثل هذه الجرائم غير مقبولة”. وأضاف “أوبيرال” أن التدابير التي تتخذها الشرطة الألمانية لحماية الأشخاص الذين اشتملت عليهم القائمة المذكورة “لا تزال غير كافية”، في إشارة إلى الهجوم الأخير الذي تعرَّض له الصحفي التركي المعارض “إرك أكارير” في برلين يوم 8 يوليو الماضي، علاوةً على رسالة التهديد التي تلقَّاها يوم 20 من الشهر نفسه.

وفي هذا السياق، ذكرت العديد من التقارير أن الشرطة الألمانية حذَّرت أشخاصًا مدرجة أسماؤهم في قائمة الاغتيالات، من بينهم الصحفي التركي البارز جلال باشلانجيتش، ونائب حزب الشعوب الديمقراطي حسيب كابلان، إضافةً إلى الصحفي التركي ذي الأصول الأرمينية هايكو باغدات.

دلالات رئيسية

بالرغم من تباين الآراء بشأن حقيقة قائمة الاغتيالات المعلن عنها، وإعلان الحكومة الألمانية أن القضية لا تزال قيد التحقيق؛ فإن القضية استدعت عددًا من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- الاشتباك السياسي داخل الساحة التركية: حيث أفضى الإعلان عن قائمة الاغتيالات إلى حالة من الاشتباك السياسي داخل تركيا، ففي حين ينظر إليها البعض باعتبارها امتدادًا لسياسات النظام التركي تجاه الصحفيين والمعارضين الأتراك في أوروبا، يُرجِّح آخرون أن يكون لحزب الحركة القومية اليميني دور خفي في هذا الشأن؛ حيث يفترض هذا الاتجاه أن تكون قائمة الاغتيالات المزعومة تكتيكًا من جانب الحزب لتقويض احتمالات التقارب بين “أردوغان” وكلٍّ من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وفي حال صحة تلك الافتراضات، فإنها تكشف بوضوح عن تصاعد حدة الاستقطاب والصراع داخل الائتلاف الحاكم في تركيا (حزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس “رجب طيب أردوغان”، وحزب الحركة القومية بزعامة “دولت بهجلي”) بل وانتقال حالة الاستقطاب هذه إلى أوروبا، وتوظيف الجماعات اليمينية التركية وثيقة الصلة بالحركة، على غرار “عثمانيون جرمانيا” و”الذئاب الرمادية”، لتحقيق أهدافها السياسية.

2- التوتر المرجح في العلاقات التركية الأوروبية: من المُرجَّح أن تشهد العلاقات الأوروبية التركية تراجعًا في حال ثبتت مسؤولية النظام التركي أو أي من الجماعات اليمينية التركية المتطرفة عن قائمة الاغتيالات التي تم الكشف عنها مؤخرًا بشأن المعارضين والصحفيين الأتراك في أوروبا، ولا سيَّما ما يتعلق بالمفاوضات حول انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن البرلمان الأوروبي صوت بأغلبية كبيرة قبل نحو ثلاثة أشهر، في 19 مايو الماضي، على تعليق المفاوضات الخاصة بانضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي؛ وذلك استنادًا إلى تقرير أدان انتهاكات النظام التركي للحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وكذلك أنشطته العسكرية في الدول الأخرى. كما أعرب البرلمان الأوروبي عن قلقه البالغ بشأن حركة “الذئاب الرمادية”، والمعروف عنها صلتها الوثيقة بحزب الحركة القومية التركي -الذي يتزعمه “دولت بهجلي” المتحالف مع حزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، واللذين يشكلان معًا الائتلاف الحاكم في تركيا- داعيًا الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء إلى إدراج “الذئاب الرمادية” ضمن قائمة “التنظيمات الإرهابية”، و”حظر فروعها في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي”.

كما ناقش البرلمان الأوروبي قضية قمع المعارضة التركية في جلسة له يوم 6 يوليو 2021، واختتم الجلسة بقرار يدعو السلطات التركية إلى وضع حد للانتهاكات والعنف المرتكب في حق جميع الأحزاب السياسية التركية، بما في ذلك الحملة ضد حزب الشعوب الديمقراطي المحسوب على الأكراد، وغيره من المعارضين السياسيين، وتمكينهم من ممارسة أنشطتهم المشروعة بحرية كاملة. وأكد البيان الختامي أن “البرلمان الأوروبي سيستمر في متابعة الأوضاع عن كثب”، مشددًا على الحاجة إلى تحسين الوضع الديمقراطي في البلاد من أجل إحراز تقدم في أجندة العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

3- التصعيد المحكوم بين برلين وأنقرة: بالتركيز على مستقبل العلاقات التركية الألمانية بصفة خاصة، فإنّه من غير المتوقّع أن تشهد العلاقات الثنائية بين البلدين تحولًا درامتيكيًّا؛ إذ إنه من المُرجَّح أن يقتصر رد الفعل الألماني على إعلان حظر حركة “الذئاب الرمادية” القومية التركية المتطرفة، لا سيَّما حال ثبوت ضلوعها في استهداف الأفراد المدرجة أسماؤهم بقائمة الاغتيالات المزعومة، خصوصًا وأن هذا الأمر محل دراسة من جانب البوندستاج الألماني منذ منتصف نوفمبر 2020.

ويُعزِّز من هذه التوقعات، تصريحات المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” يوم 22 يوليو 2021، خلال مؤتمر صحفي لها قبيل الانتخابات العامة المزمع عقدها في شهر سبتمبر 2021، لانتخاب خلفها في حكم البلاد؛ إذ أعربت الزعيمة الألمانية المحافظة عن دعمها لتوثيق العلاقات مع أنقرة من خلال تحديث الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، وتجديد اتفاق اللاجئين لعام 2016، مضيفة أنها مع ذلك لا تتوقع أن تصبح تركيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي. ولعلَّ دلالة توقيت تصريحات “ميركل”، والتي جاءت بعد تسرب المعلومات الخاصة بقائمة الاغتيالات التركية على مواقع التواصل الاجتماعي منتصف شهر يوليو الماضي، وخلو تصريحات “ميركل” من التصعيد والتهديد؛ يكشف أن رد الفعل الألماني حال ثبوت تورُّط النظام التركي لن يخرج في مجمله عن الموقف العام للاتحاد الأوروبي حيال أنقرة، والذي تم التطرق إليه آنفًا.

وفي هذا السياق، كشف عددٌ من المعارضين الأتراك المقيمين في ألمانيا عن تخوفهم من سلبية رد الفعل الألماني إزاء تهديدات النظام التركي لهم؛ إذ إنهم يرون أن أولويات السياسة الخارجية الألمانية مع تركيا، بما في ذلك صفقة اللاجئين مع الاتحاد الأوروبي، والدور التركي المحتمل في أفغانستان، قد يجعل القضايا الخلافية في العلاقات مع أنقرة، كالديمقراطية وحقوق الإنسان؛ غير حاضرة على طاولة المفاوضات كورقة ضغط من جانب برلين في مواجهة النظام التركي.

4- الضغط المتزايد على النظام التركي: من المرجح أن تؤدي قضية قائمة الاغتيالات المعلن عنها إلى فرض المزيد من الضغوط على النظام التركي وصورته الخارجية، وخاصة مع التقارير التي تكشف عن تزايد وتيرة الهجمات التي استهدفت الصحفيين الأتراك المقيمين في ألمانيا ودول أوروبية أخرى، وخصوصًا أن دولة مثل ألمانيا باتت موطنًا للعديد من الصحفيين الأتراك المعارضين بعدما كثَّف النظام التركي حملته ضد المعارضين في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016؛ فمنذ هذه المحاولة أغلقت الحكومة التركية نحو 204 مؤسسات إعلامية. ووفقًا لمنظمة “مراسلون بلا حدود”، تعرَّض أكثر من 200 صحفي وإعلامي في تركيا للاعتقال على مدار السنوات الخمس الماضية.

وخلال العام الماضي، صنَّفت مؤسسة “فريدوم هاوس” تركيا ضمن فئة الدول “غير الحرة”. وأفاد تقرير صدر مؤخرًا عن المؤسسة ذاتها أن النظام التركي “قاد حملة قمعية عابرة للحدود، تتبع خلالها المعارضين الأتراك المتهمين بالتواطؤ في المحاولة الانقلابية في 31 دولة مختلفة في الأمريكيتين وأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا”، كما كشف التقرير عن تزايد عمليات “الترحيل السري التي قامت بها الحكومة التركية خلال السنوات الأخيرة. ورغم أنها استهدفت في البداية الأشخاص ذوي الصلة بحركة فتح الله جولن، التي تعتبرها الحكومة التركية مسئولة عن المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، فإنه بمرور الوقت اتسعت قائمة المستهدفين من جانب النظام التركي لتشمل أيضًا الأكراد واليساريين”.

ومن ثم، يمكن القول أن قائمة الاغتيالات التي تستهدف أنقرة من خلالها إسكات بعض العناصر المعارضة التركية في الدول الأوروبية ينتج عنها جملة من التأثيرات في اتجاهات متعددة، ومنها تصاعد حدة الاستقطاب والصراع داخل الائتلاف الحاكم في تركيا وخاصة بين حزب العدالة والتنمية والحركة القومية، فضلا عن امتداد التأثير إلى الساحة الأوروبية وخاصة فيما يتعلق بإضعاف فرص التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي، لاسيما في ظل انتهاكات النظام التركي للحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وكذلك أنشطته العسكرية في الدول الأخرى، وهو ما يتيح ممارسة ضغوط متزايدة على النظام التركي.