مع تصاعد حدة العمليات التي يقوم بها تنظيم “داعش” في سوريا خلال النصف الأول من العام الجاري، بدأت اتجاهات عديدة في التحذير من أن التنظيم ربما يحاول اختراق الساحة اللبنانية عبر استقطابات جديدة بالداخل اللبناني والتجهيز لتنفيذ سلسلة من العمليات الإرهابية استغلالاً لحالة الفراغ السياسي نتيجة الفشل المتكرر في تشكيل الحكومة، فضلاً عن انشغال السلطات بالتظاهرات التي تم تنظيمها في الفترة الماضية، في الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس الجاري، لاسيما أن “داعش” سعى بالفعل، منذ انفجار المرفأ، إلى تعزيز وجوده في الداخل اللبناني عبر إعادة تأسيس نقاط ارتكاز جديدة وتكوين خلايا إرهابية بجانب محاولة تنفيذ بعض العمليات الإرهابية، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول دوافع التنظيم لإعادة التموضع داخل لبنان خلال المرحلة الحالية.
تحركات عديدة:
بدأ تنظيم “داعش” في التركيز على الداخل اللبناني منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، حيث سعى إلى استغلال تصاعد حدة الاستياء الشعبي إزاء تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتمكن من تنفيذ ثلاث عمليات إرهابية، على غرار العملية التي وقعت في 21 أغسطس 2020، حيث قام مسلحون بإطلاق النار على عناصر أمنية ببلدة كفتون بمنطقة الكورة شمالى لبنان أثناء مرور القوات بالمنطقة، مما أدى إلى مقتل 3 أشخاص، ثم أعقب هذه العملية مقتل أربعة عسكريين في مدينة طرابلس شمال لبنان أثناء عملية مداهمة من جانب قوات الجيش في 13 سبتمبر 2020، ومقتل قائد الخلية الإرهابي خالد التلاوي الذي بادر باستخدام متفجرات ضد قوات الجيش، وهو ما دفع الإرهابي عمر بريص إلى تنفيذ عملية في 26 من الشهر نفسه، ضد موقع للجيش اللبناني مقابل لمعسكر عرمان في المنية ما أسفر عن مقتل عسكريين اثنين إلى جانب الإرهابي. وفي 2 مارس 2021، تمكنت الأجهزة الأمنية اللبنانية من إحباط عملية انتحارية لتنظيم “داعش”، حيث أعلنت أن مديرية المخابرات في الجيش أوقفت عدداً من المنتمين إلى التنظيم، وأنهم كانوا في مرحلة الإعداد والتخطيط لاستهداف مراكز ومواقع عسكرية تابعة للجيش والقوى الأمنية.
دوافع مختلفة:
يمكن تفسير اتجاه “داعش” إلى محاولة إعادة التموضع داخل لبنان في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تعزيز النفوذ في البؤر الرئيسية: يسعى تنظيم “داعش” عبر إعادة التموضع في لبنان إلى توسيع نطاق نفوذه في المحور الذي يضم كلاً من العراق وسوريا ولبنان، لاستكمال ما يطلق عليه التنظيم “محور سوريا الكبرى”، ليتمكن من إثبات قدرته على السيطرة بعد فشل استراتيجية “التمكين والخلافة” في مرحلة ما بعد سقوط الباغوز في مارس 2019.
2- استغلال الأزمة: يبدو أن التنظيم يرى أن تصاعد وتيرة الاستياء الشعبي المستمر منذ ما يقرب من عامين في لبنان ضد الأوضاع السياسية والاقتصادية وتفاقم الصراع الدائر بين القوى السياسية، بالتوازي مع انشغال السلطات بتداعيات انفجار مرفأ بيروت والاحتجاجات الشعبية ومنها دعوات التظاهر في 4 أغسطس الحالي، يمكن أن يعزز من محاولاته لاختراق الساحة اللبنانية والاستفادة من هذه التظاهرات لاستقطاب عناصر جديدة ومن ثم تأسيس نقاط ارتكاز جديدة في الشمال اللبناني.
3- استباق الانسحاب الأمريكي من العراق: مع إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن بدء الانسحاب الأمريكي من العراق، تزايدت دعوات تنظيم “داعش” لأنصاره، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل العمل على استغلال الانسحاب لإعادة بناء نقاط ارتكاز جديدة للتنظيم داخل العراق وبعض دول المنطقة ومنها لبنان، على أساس أن الانسحاب من العراق سوف يفرض تداعيات مباشرة على مستقبل التوازنات في المنطقة برمتها، خاصة أنه قد يكون جزءاً من عملية انسحاب تشمل دولاً ومناطق أخرى. وكان لافتاً أن ذلك توازى مع اتجاه التنظيم إلى تصعيد حدة العمليات الإرهابية التي يقوم بها داخل سوريا والعراق حتى وصلت خلال الأسبوع الأخير من يوليو 2021 إلى ما يقرب من 17 عملية إرهابية في الدولتين.
4- رسائل متعددة: يسعى “داعش” عبر إعادة التموضع في الداخل اللبناني إلى توجيه بعض الرسائل إلى القوى الدولية المعنية بالحرب ضده، لاسيما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، مفادها أنه ما زالت لديه القدرة على إعادة الانتشار وتنفيذ عمليات إرهابية نوعية، على الرغم من سقوط ما يسمى بـ”دولة الخلافة الداعشية” في الباغوز في مارس 2019، ومقتل العديد من قيادات الصف الأول من التنظيم خلال المرحلة الماضية، وفي مقدمتهم القائد السابق أبو بكر البغدادي.
5- استقطابات جديدة: مع تراجع العناصر المنضمة لتنظيم داعش خلال الفترة السابقة بدء التنظيم يهتم باستقطاب عناصر جديدة، خاصة في ظل الخسائر الفادحة التي تعرض لها في الفترة الماضية، ومن هنا، فإن قياداته ربما ترى، وفقاً لاتجاهات عديدة، أن الظروف التي تمر بها منطقة شمال لبنان، على المستويات المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، توفر فرصة لعملية الاستقطاب، ولاسيما في ظل تنامي حالة الاستياء على الصعيد الداخلي.
6- الاستفادة من الحدود الهشة: تعتبر الحدود بين لبنان وسوريا هشة، في ظل التطورات الميدانية التي تشهدها الساحة السورية منذ اندلاع الأزمة في عام 2011، وهو ما يساعد قيادات وكوادر التنظيم على الانتقال عبر الحدود، خاصة في ظل قرب تمركزهم في شمال وغرب ووسط لبنان من مناطق سيطرة التنظيم في سوريا.
7- تقليص الضغط على فرع التنظيم في سوريا: مع تصاعد حدة العمليات العسكرية التي يشنها التحالف الدولي ضد “داعش” في سوريا إلى جانب القوات النظامية، بدأ التنظيم في تعزيز وجوده في الداخل اللبناني، بهدف تقليص الضغوط التي تفرضها تلك التطورات الميدانية عليه.
في النهاية، يمكن القول إن محاولات “داعش” تعزيز نشاطه داخل لبنان، عبر تأسيس بؤر جديدة للتمركز والاستفادة من الاستقطاب الطائفي وتصاعد حدة الأزمتين السياسية والاقتصادية، تفرض تهديدات مباشرة للأمن والاستقرار في لبنان، على نحو يزيد من أهمية الجهود المبذولة لتشكيل حكومة جديدة تستطيع مواجهة تلك الأزمات واحتواء تداعياتها.