عندما كانت إيران تُجري مفاوضات مع قوى مجموعة “5+1” في عام 2013 لتطوير اتفاق جنيف النووي، الذي تم التوصل إليه في 23 نوفمبر من هذا العام، وتحويله إلى صفقة أكثر شمولاً، قال المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، في 9 يناير 2014، إن “إيران تتفاوض أحياناً مع الشيطان (في إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية) من أجل درء شره”.
ورغم مرور عِقد على تصريحات خامنئي، إلا أن المقاربة نفسها تبدو حاضرة حالياً وبقوة لدى دوائر صنع القرار في إيران. صحيح أن مسئولي النظام وقادته لم يُفصحوا علانية عن الرغبة في تجديد المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ إلا أن مجرد السماح بإطلاق الدعوات الخاصة بتلك المفاوضات وإثارة الجدل حولها يوحي بأن النظام ليس بعيداً عن ذلك، وأنه يسعى إلى توجيه رسائل مباشرة إلى الخارج تفيد باستعداده للانخراط في هذا المسار في مرحلة ما.
هذا التوجه بدا جلياً في تغاضي النظام عن نشر مذكرات وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف التي جاءت بعنوان “پایاب شکیبایی” (الصبر العميق)، والتي أشار فيها إلى الاتصالات التي جرت مع الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة توليه وزارة الخارجية، ولا سيما بعد اغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني والضربات الصاروخية التي شنتها إيران ضد قاعدة “عين الأسد” رداً على ذلك. كما اتضح أكثر في التصريحات التي أدلى بها ظريف أيضاً في حواره مع موقع “جماران”، في 27 مارس الجاري، ودعا فيها إلى إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية حول غزة مثلما جرت مفاوضات سابقة ومباشرة بين طهران وواشنطن حول العراق وأفغانستان.
وقد كان لافتاً أن هذا الجدل أعقب نشر تقارير حول إجراء مفاوضات غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في 10 يناير الماضي، وقبل بدء العمليات العسكرية في اليمن، والتي لم تواجه بنفي قاطع من جانب الطرفين.
اعتبارات عديدة
يمكن تفسير تصاعد الجدل مجدداً داخل إيران حول أهمية إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- إضعاف احتمالات نشوب حرب جديدة: لم تعد إيران تستبعد أن تكون الحرب التي تشنها إسرائيل حالياً في قطاع غزة هي بداية مرحلة جديدة من المواجهات العسكرية المباشرة بين أطراف مختلفة وعلى مسارح متعددة في الشرق الأوسط. ورغم أنها بذلت جهوداً حثيثة في الفترة الماضية من أجل النأي بنفسها عن الانخراط في الحرب الحالية وما يمكن أن يتبعها من مواجهات أو حروب جديدة؛ إلا أن هذه الجهود قد لا تحقق النتيجة نفسها في مرحلة لاحقة، في ظل المعطيات الجديدة التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى” وما أعقبها من حرب لا تزال تدور رحاها حتى الآن، ولا يُتوقع أن تشهد نهاية قريبة حتى بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 2728، في 52 مارس الجاري، والذي يطالب بوقفها.
وهنا، فإن إجراء هذه المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية من شأنه أن يساعد، وفقاً لرؤية اتجاهات في طهران، في تقليص احتمالات نشوب هذه الحرب، أو بمعنى أدق انخراط إيران فيها، تطبيقاً للمبدأ الذي التزمت به طهران منذ انتهاء الحرب مع العراق في عام 1988، والقائم على ضرورة تجنب المواجهة المباشرة إلا في حالة ما إذا فُرضت على إيران، والاستعاضة عن ذلك بتبني سياسة “الحرب بالوكالة”.
2- الاستعداد لاحتمال عودة سياسة “الضغوط القصوى”: وذلك في حالة فوز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجري في 5 نوفمبر المقبل. ففي رؤية طهران، فإن هذا الاحتمال يعزز من فرضية اندلاع حرب جديدة في المنطقة، سواء إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الطرف المُبادِر بها، أو إذا كانت إسرائيل هي من سيقوم بالمهمة، على اعتبار أن مجرد عودة ترامب إلى البيت الأبيض قد يوفر لها محفزاً جديداً لبدء تلك الحرب بالفعل، في سياق التحولات التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى” على التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي.
وهنا، فإن إيران سوف تتعامل -في الغالب- مع هذا الاحتمال عبر الانخراط في مسارين: الأول، الاستمرار في تبني السياسة نفسها التي تتبعها حالياً في الملفات الخلافية الرئيسية، وفي مقدمتها الملف النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية والتدخلات الإقليمية. والثاني، تحييد احتمالات استخدام الخيار العسكري، على غرار ما حدث مع اغتيال سليماني في الفترة الرئاسية الأولى لترامب، عبر الانخراط في مفاوضات قد تساعد في الوصول إلى تفاهمات أو صفقة جديدة قد يكون ترامب أكثر قدرة على تمريرها في الداخل الأمريكي.
3- تحييد سيطرة المتشددين على مؤسسات صنع القرار: لا يمكن الفصل بين دعوة ظريف لتجديد التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية والتوازنات السياسية الجديدة التي فرضتها نتائج انتخابات مجلسي الشورى الإسلامي وخبراء القيادة التي أُجريت بالتزامن في أول مارس الجاري. إذ وجه ظريف أيضاً، في تسجيل صوتي له بُثَّ في 15 مارس الجاري، انتقادات قوية للعازفين عن المشاركة في الانتخابات، حيث اعتبر أن ذلك كان أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى وصول شخصيات “فاسدة” و”كاذبة” إلى البرلمان، في إشارة إلى النائب الأصولي المتشدد محمود نبويان الذي سبق أن اتهم ظريف، في 31 مايو 2017، بأنه “تفاوض مع الأمريكيين حول رأس سليماني مقابل رفع العقوبات”.
لكنّ تجديد الدعوة للمفاوضات حالياً لا يتعلق بهذه الاتهامات في حد ذاته، وإنما يتصل مباشرة بتزايد القلق من تداعيات تصاعد نفوذ نبويان ورفاقه داخل مراكز صنع القرار على اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية، حيث يتوقع ظريف أن يضغط تيار المحافظين الأصوليين من أجل تبني سياسة أكثر تشدداً في الملفات الخلافية السابق الإشارة إليها، على نحو يرى أن تجديد المفاوضات يمكن أن يحول دون حدوث ذلك، أو على الأقل يقلص من الانعكاسات التي يمكن أن تنتج عن سيطرة الأصوليين على المؤسسات الرئيسية النافذة في النظام.
4- وضع حدٍّ لـ”المغامرات” الخارجية: دائماً ما كان ظريف، بعد انتهاء فترة توليه وزارة الخارجية، يوجه رسائل تفيد بأنه لا يدعم سياسة دعم الوكلاء في المنطقة التي تتبناها إيران، بل إنه سارع -بشكل لافت- إلى تأييد سياسة “النأي بالنفس” التي اتبعتها إيران فور اندلاع الحرب الحالية، عندما كررت نفي ضلوعها في عملية “طوفان الأقصى”، مشيراً، في 17 نوفمبر الماضي، إلى أن “دعم إيران للمقاومة لا يشمل الحرب بجانبهم”.
وهنا، فإن تجديد المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية قد يساعد، وفقاً لرؤية ظريف، في تجنيب إيران دفع جزء من كلفة العمليات التي يقوم بها الوكلاء في المنطقة سواء ضد إسرائيل أو ضد الولايات المتحدة الأمريكية، على غرار ما يحدث في غزة وجنوب لبنان وسوريا والعراق واليمن. وربما يقنع إيران مستقبلاً بضرورة وضع حد للدعم الذي تقدمه للوكلاء، خاصة بعد أن أدركت إيران عواقب التعويل بشكل شبه كامل على الأدوار التي يقوم بها الوكلاء في المنطقة، والتي كادت أن تتسبب في الاقتراب من المحظور وهو انخراط إيران في مواجهة عسكرية مباشرة.
في ضوء ذلك، ربما يمكن القول -في النهاية- إن إيران سوف تواصل توجيه رسائل مزدوجة خلال المرحلة المقبلة، من خلال اتخاذ مزيدٍ من الإجراءات التصعيدية على المستويات المختلفة النووية والصاروخية والإقليمية، وفي الوقت نفسه إبداء الاستعداد للانخراط في مفاوضات جديدة بهدف تجنب الانخراط في الحرب أولاً، والحصول على مكاسب استراتيجية جديدة ثانياً.