أسفرت الهجمات الحوثية على السفن في خليج عدن والبحر الأحمر عن تراجع الملاحة البحرية التي تمر عبر باب المندب باتجاه البحر المتوسط والعكس صحيح؛ إلا أنه في الوقت نفسه تزايد الاعتماد على ميناء دوراليه الجيبوتي، بما يشير إلى استفادة محتملة لموانئ جيبوتي من تلك التوترات، اعتماداً على تزايد تقديمها الخدمات اللوجستية للسفن المارة في المنطقة، وكذا تزايد دور الموانئ الجيبوتية لنقل البضائع للداخل الأفريقي، فضلاً عن تزايد نشاط إعادة التصدير على خلفية تراجعه في بعض الموانئ الأخرى التي تطل على البحر الأحمر، في ضوء إحجام السفن عن الاقتراب من المناطق البحرية التي يهددها الحوثيون.
فعلى الرغم من الخسائر التي تعرضت لها حركة الملاحة البحرية والتجارة العالمية خلال العام الجاري، ولا سيما بعد شن مليشيا الحوثي هجمات على السفن المارة بالبحر الأحمر وخليج عدن، مما أثر على ما يطلق عليه “اقتصاديات الموانئ”؛ غير أن موانئ جيبوتي استفادت من تلك الأزمة وحولتها إلى فرص محتملة لها. فقد أكد “إسماعيل حسن” مستشار الرئيس التنفيذي لشؤون العمليات بميناء دوراليه، في 26 فبراير 2024، أن الميناء شهد في يناير 2024 زيادة في مناولة الحاويات بمعدل يتراوح بين 5% و10% مقارنة بالأشهر السابقة، حيث خدم الميناء أكثر من 100 ألف حاوية في يناير، لافتاً إلى أن كل شركات السفن والملاحة العالمية لديها وجود في ميناء دوراليه، ويخدم الميناء أكثر من 60 ميناء حول العالم، وأن لديه القدرة على استقبال أكبر السفن على مستوى العالم. وتجدر الإشارة إلى أن جيبوتي تملك 4 موانئ رئيسة متخصصة، منها ما هو مخصص لتداول الحاويات، وموانئ أخرى لاستقبال وتصدير السلع والبضائع والماشية والطاقة.
أهمية متزايدة
بالرغم مما التأثيرات السلبية التي تشهدها غالبية الموانئ التي تطل على البحر الأحمر وخليج عدن، بسبب الاستهداف الحوثي للسفن؛ إلا أنه في المقابل تزايد دور موانئ جيبوتي، وهو ما يمكن إرجاعه إلى عدد من الأسباب المرجح تحققها، على النحو التالي:
1- تزايد تقديم الخدمات اللوجستية للسفن المارة: إن تعثر وصول السفن للموانئ الموجودة في البحر الأحمر تحسباً لاستهدافها من قبل الحوثيين عند المرور بمضيق باب المندب، زاد من اعتمادية بعض السفن على موانئ جيبوتي التي تعتبر الوجهة الأولى لقوافل التجارة القادمة من الجنوب للشمال، في حصولها على الخدمات اللوجستية والصيانة، إضافة إلى ما سبق فإن استهداف بعض السفن من قبل الحوثيين أسفر عن تضررها، ودفعها ذلك إلى اللجوء لموانئ جيبوتي. ويُشار في هذا الصدد إلى ما ذكره قائد خفر السواحل الجيبوتية العقيد بحري ركن “وعيس عمر بقرّي” في فبراير 2024، من أن هناك سفناً تضررت وتمت صيانتها في جيبوتي ثم واصلت رحلتها، الأمر الذي يعزز من دور موانئ جيبوتي في تلك المنطقة الاستراتيجية، لتصبح لاعباً فاعلاً في دعم الملاحة البحرية بين الشرق والغرب.
وبخلاف ما سبق، أشارت العديد من المصادر إلى أن بعض السفن كانت تنتظر في المياه الإقليمية وموانئ جيبوتي لتجنب هجمات الحوثيين وتوقفها، ومن ثم تقرر إذا ما كانت ستكمل مسارها عبر البحر الأحمر أم تغييره إلى طريق رأس الرجاء الصالح، بما يشير إلى نظرة شركات الملاحة الدولية للمياه الإقليمية الجيبوتية بأنها منطقة آمنة بالرغم من المواجهات العسكرية التي تشهدها المنطقة، هذا ويُعد عامل الأمان أساسياً في الاعتماد على موانئ جيبوتي حالياً وفي المستقبل في حالة اندلاع مواجهات مماثلة.
يؤخذ في الاعتبار تطور أداء جيبوتي المطرد في مؤشرات الأداء اللوجستي خلال السنوات الماضية، بما يشير إلى قدراتها في التعامل مع السفن ومناولة البضائع، حيث تحسن ترتيبها في مؤشر أداء الخدمات اللوجستية الصادر عن البنك الدولي، وذلك من المركز 146 في المؤشر الصادر في عام 2007، إلى المركز 79 في المؤشر الصادر عام 2023.
وتجدر الإشارة إلى إفادة بعض المصادر بأن السفن التي غيرت مسار إبحارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح تواجه إشكالية عدم جاهزية الموانئ الأفريقية على ذلك الطريق، بما يجعلها تواجه تحديات في الحصول على التزود بالوقود والخدمات اللوجستية، وبالتالي قد يجعل ذلك موانئ جيبوتي لاعباً فاعلاً في تقديم تلك الخدمات، سواء عبر الممر التقليدي البحر الأحمر/ قناة السويس أو طريق رأس الرجاء الصالح، نظراً لتقاطع موقعها على الممرات الملاحية الدولية المتعددة.
2- دور متزايد لنقل البضائع للداخل الأفريقي: تعمل موانئ جيبوتي كمراكز لنقل البضائع من وإلى الدول الحبيسة في أفريقيا، أي إثيوبيا وجنوب السودان، ومن جانب آخر يشكل تخوف إبحار السفن عبر البحر الأحمر فرصة لتحميل بعض البضائع في موانئ جيبوتي ليتم نقلها برياً إلى دول الجوار مثل إريتريا، أو حتى تجاه السودان في ضوء الصراع الداخلي الذي تشهده مما أثر على حركة الاستيراد عبر الموانئ البحرية، حيث يوفر نقل التجارة للداخل السوداني بدون المرور على بعض مناطق الصراع. ويُشار في هذا الصدد إلى إعادة افتتاح معبر اللفة الحدودي الذي يربط السودان بإريتريا في سبتمبر 2023، وبما يسهل انسياب التجارة بين البلدين، مما يشير إلى أن الربط الإقليمي الجاري العمل عليه حالياً في شرق أفريقيا، قد يعزز من دور موانئ جيبوتي، خاصة مع تطور إمكانات موانيها التي ساعدتها على استقبال سفن عملاقة بعكس موانئ أخرى في المنطقة.
يدعم من ذلك التوجه قدرة موانئ جيبوتي على مناولة الحاويات، والتي ارتفعت بشكل مطرد خلال السنوات الماضية، وذلك من مناولة نحو 406 آلاف TEU في 2010، إلى نحو 917 ألف TEU في 2019، أي بنسبة ارتفاع 126%، ولكن تراجع حجم مناولة الحاويات بعد جائحة كورونا وما تبعها من صدمات لتصل إلى مناولة نحو 635 TEU في 2022 (TEU وحدة الشحن المكافئة لعشرين قدم، وتستخدم لقياس كمية البضائع المشحونة التي تُحمل في حاويات، سواء على سفن أو شاحنات النقل).
3- تزايد نشاط إعادة التصدير: أسفر تراجع مرور السفن عبر البحر الأحمر بالضرورة عن خفض نشاط إعادة التصدير في الموانئ التي تطل عليه، ولكن وفق ما ذكره “إسماعيل حسن” مستشار الرئيس التنفيذي لشؤون العمليات بميناء دوراليه، فإن مناولة الحاويات تزايدت في يناير مقارنة بالأشهر السابقة، في دلالة على اتجاه بعض شركات النقل البحري للاعتماد على موانئ جيبوتي، بما يجعلها مركزاً مهماً لذلك النشاط في ضوء التوترات الراهنة.
وتجدر الإشارة إلى أن اقتصاد جيبوتي يعتمد بشكل كبير على خدمات النقل واللوجستيات، ويُشار في هذا الصدد إلى أن قطاع الخدمات يُسهم بنحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي الجيبوتي، فيما يسهم قطاعا الصناعة والزراعة في الناتج بـ17% و3% على التوالي (وفق بيانات منظمة الاتحاد الأفريقي)، هذا وتعتمد التجارة الخارجية لجيبوتي بشكل أساسي على نشاط إعادة التصدير المدعوم من المنظومة اللوجستية في موانئ جيبوتي، فضلاً عن الاعتماد على صادرات خدمات النقل البحري، بما يجعل النشاطين داعمين أساسيين لميزان المدفوعات والحساب الجاري، مما يعكس مدى ارتباط الاقتصاد الإثيوبي بالتجارة العالمية، فمع تراجعها تتراجع مؤشرات اقتصادها الوطني.
يوضح الشكل السابق أن نشاط إعادة التصدير قام بدعم مساهمة التجارة الخارجية في الحساب الجاري بشكل واضح في الأعوام 2014 و2015 و2018، ويُرى أن ذلك التطور يواكب التحسن في قدرات الموانئ الجيبوتية في استقبال السفن ومناولة الحاويات، وهو ما دلل عليه تطور مساهمة صادرات الخدمات في الحساب الجاري في الأعوام نفسها. وفي هذ الإطار، من المتوقع أن ترتفع مساهمة نشاط إعادة التصدير وصادرات خدمات النقل البحري في إجمالي صادرات جيبوتي خلال الفترة الراهنة على خلفية تزايد الاعتماد على موانئ جيبوتي، وعليه قد يتقلص العجز التجاري المستدام الذي تُعاني منه، والذي ارتفع من نحو 4.1 مليارات دولار في 2015 إلى 10.4 مليارات دولار في 2022، محققاً ارتفاعاً نسبته 153% (وفق موقع Trade Map المعني ببيانات التجارة الدولية).
دور محوري
في الختام، إن تزايد الاعتماد على موانئ جيبوتي بعد تزايد التهديدات الحوثية عقب الحرب الإسرائيلية على غزة، يلقي الضوء على أهميتها في دعم الملاحة البحرية في البحر الأحمر مستقبلاً، وكيف أنها قد تكون الأكثر فاعلية في أوقات الأزمات مقارنة بموانئ العديد من دول المنطقة، لا سيما وأنها تقع على تقاطع ممرات الملاحة البحرية العالمية، وبإمكانها توفير خدمات لوجستية للسفن تمكنها من إتمام رحلاتها، كما أنها قد تصبح مركزاً مهماً لنشاط إعادة التصدير، فضلاً عن إمكانية أن تصبح بوابة رئيسة للتجارة القادمة من آسيا إلى قلب القارة الأفريقية. وفي هذا الإطار، قد تتجه العديد من الدول لتعزيز حضورها في قطاع النقل البحري الجيبوتي خلال السنوات المقبلة، للاستفادة من الدور المتزايد المرتقب لموانيها في دعم التجارة العالمية، ولكن تظل الموانئ الرئيسة في البحر الأحمر تحدياً رئيساً لتمتع جيبوتي بذلك الدور.