قام رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني ورئيس الحكومة مسرور بارزاني بجولة خارجية شملت الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، وذلك خلال الفترة من 28 فبراير وحتى 3 مارس الجاري. وتأتي الزيارتان في ظل عددٍ من المتغيرات الداخلية والإقليمية الرئيسية كان أبرزها إصدار المحكمة الاتحادية في بغداد قراراً يُلزم حكومة إقليم كردستان بتوطين رواتب الموظفين في مصارف بغداد ما يعدّ تقييداً لصلاحيات الإقليم المالية، بالإضافة إلى ارتباط الزيارتين بمساعي إدارة الإقليم لتعزيز الدور الخارجي للإقليم خلال المرحلة الحالية باعتباره أداة يمكن من خلالها مواجهة التحديات والأزمات الداخلية المتصاعدة.
توقيت لافت
تأتي زيارتا رئيسَيِ الإقليم والحكومة في كردستان العراق إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، في سياق تحديات محلية وجيوسياسية تواجه الإقليم، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- تصاعد التوتر بين الإقليم وبغداد: اتسع نطاق الخلافات بين الحكومة العراقية وإقليم كردستان بشأن القضايا المالية، وتقسيم الدوائر الانتخابية، على نحو بدا واضحاً في قرار المحكمة الاتحادية العليا، في 21 فبراير الماضي، وهي أعلى سلطة قضائية في العراق، بإلزام كلٍّ من رئيس الوزراء العراقي ورئيس حكومة إقليم كردستان بتوطين رواتب الموظفين والعاملين في القطاع العام لدى المصارف الاتحادية.
كما ألزم القرار حكومة كردستان بتقديم الموازنة الشهرية لموظفي الإقليم لدى وزارة المالية الاتحادية، مع إلزام مجلس وزراء الإقليم بتسليم جميع الإيرادات النفطية وغير النفطية إلى الحكومة الاتحادية. وشدد الحكم أيضاً على أن قرار توطين رواتب موظفي الإقليم قرارٌ بات وملزم. كما أقرت المحكمة العليا تقسيم دوائر الإقليم الانتخابية إلى أربع، بالتوازي مع حكم قضائي آخر بإحلال المفوضية العليا الاتحادية المستقلة للانتخابات بدلاً من الكردستانية.
2- زيادة الضغوط الاقتصادية الداخلية: يواجه الإقليم ضغوطاً اقتصادية نتيجة التوترات الجيوسياسية في المنطقة التي طالت الإقليم، حيث تعرض، في 16 يناير الماضي، لضربات عسكرية إيرانية في أربيل بدعوى وجود مقرات تجسس تابعة لإسرائيل ومواقع للمعارضة الإيرانية.
كما تراجعت مستويات المعيشة داخل الإقليم بفعل تأخر رواتب موظفي الإقليم، ورفض حكومة بغداد تعديل قانون الموازنة العامة وتثبيت مبلغ 913 مليار دينار سنوياً للرواتب، بعيداً عن حصة الإقليم من أموال الموازنة. وتجدر الإشارة إلى أن جميع القطاعات الاقتصادية في إقليم كردستان تأثرت بالأزمة المالية، وظهر ذلك في استغلال الشركات الأهلية والمعامل والمصانع ورجال الأعمال والمقاولين تلك الأزمة للامتناع عن صرف رواتب الموظفين، أو على الأقل صرف مبالغ متدنية.
3- تعزيز الدور الدبلوماسي للإقليم: ترتبط الزيارتان برغبة الإقليم في تعزيز دوره الخارجي، باعتبار ذلك أداة يمكن من خلالها مواجهة التحديات والأزمات الداخلية المتصاعدة، فضلاً عن تبني الإقليم استراتيجية جديدة لمواجهة الارتدادات السلبية للصراعات التي تتفاقم تدريجياً في المنطقة، وكذلك امتلاك القدرة اللازمة لمواجهة التحديات الأمنية التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي انعكست بصورة لافتة على الإقليم، من خلال استهداف المليشيات العراقية الموالية لإيران الأهداف والقواعد الأمريكية الموجودة داخل كردستان العراق.
4- تأمين الدعم التركي للحزب الديمقراطي: لا تنفصل زيارة نيجيرفان بارزاني لتركيا عن سعى الإقليم لتأمين دعم أنقرة للإدارة الحالية، خاصة مع توجه الأولى خلال الآونة الأخيرة نحو تحسين العلاقات مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، حيث تسعى أنقرة تدريجياً إلى معالجة القضايا الخلافية مع الاتحاد الوطني الكردستاني لاستقطاب دعمه في مواجهة حزب العمال الكردستاني من جهة، وتقليص نفوذ إيران في كردستان العراق من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، فإن الزيارة تحمل في طياتها رسالة مفادها أن الحزب الديمقراطي الحاكم في أربيل لا يزال يمثل الطرف الأساسي في مكافحة حزب العمال الكردستاني، وأن البحث عن بدائل لا يضمن تحقيق المصالح التركية مع الإقليم.
كما ترتبط الزيارة بجهود الإقليم لحل معضلة استئناف صادرات نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركي، والتي توقفت منذ مارس 2023 على خلفية قرار صادر عن محكمة التحكيم الدولية ومقرها باريس بشأن تصدير النفط بين تركيا والعراق، وإلزام تركيا بدفع غرامة مالية تقدر بمليار دولار لحكومة بغداد.
وتمثل صادرات النفط أولوية ملحة لإقليم كردستان في التوقيت الحالي، بالنظر إلى ضعف الموارد المالية للإقليم، وتصاعد القضايا الخلافية بشأن موازنة الإقليم مع الحكومة المركزية. لذلك، يريد الإقليم استئناف تصدير النفط عبر تركيا في أسرع وقت ممكن، خاصة أن توقف الآبار عن الاستخراج قد يتسبب بأضرار كبيرة لها، فضلاً عن انعكاس الأزمة على معدل البطالة في الإقليم.
5- استمرار الجدل حول الانسحاب الأمريكي: جاءت زيارة مسرور بارزاني للولايات المتحدة الأمريكية بالتزامن مع تصاعد ضغوط القوى السياسية العراقية الموالية لإيران لإنهاء وجود القوات الأمريكية في العراق، ووصلت هذه الضغوط إلى ذروتها في يناير الماضي بعد إعلان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن حكومته ستبدأ قريباً مفاوضات مع واشنطن لإنهاء وجود التحالف في العراق.
والأرجح أن ثمة قلقاً ينتاب القوى الكردية في إقليم كردستان من تداعيات الانسحاب العسكري الأمريكي أو إنهاء وجود قوات التحالف الدولي، ولذلك فإن الموقف الكردي الرسمي ضد انسحاب القوات الأمريكية من العراق في الوقت الحالي، لا سيما أن هذا الانسحاب سيعني تفرد المكون الشيعي الموالي لإيران بإدارة العراق، فضلاً عن مخاوف من خسارة المساعدات العسكرية الأمريكية.
انعكاسات محتملة
تهدف الزيارتان إلى التمهيد لتنفيذ استراتيجية جديدة للإقليم لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، إذ أكد مسئولا الإقليم خلال زيارتيهما للولايات المتحدة الأمريكية وتركيا حرص إدارة الإقليم على تعزيز العلاقات الأمنية والتجارية معهما. لذلك، يتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة، بفضل التعاون مع القوى الإقليمية والدولية، تقليص التكلفة الاقتصادية والسياسية للأزمات التي يعانيها الإقليم، خاصةً بعد تزايد حدة القضايا الخلافية مع الحكومة المركزية في بغداد، وبعد تعثر الأوضاع المالية على خلفية قرار القضاء العراقي بضرورة وضع رواتب موظفي الإقليم داخل مصارف بغداد.
على صعيد متصل، يُتوقع أن تساهم تلك التحركات في دفع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للتمهل بشأن انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق. لذلك، يرى مراقبون أن الاستراتيجية الجديدة للإقليم تجاه واشنطن وأنقرة ترتبط، في جانب منها، بالمخاوف المحتملة حال الانسحاب الأمريكي من العراق.
ويرجح أيضاً أن تسفر مساعي الإقليم عن زيادة مساحات التفاهم والتنسيق بين أربيل وأنقرة بشأن مكافحة حزب العمال الكردستاني، خاصة أن الأخيرة تربط جانباً واسعاً من علاقاتها الاقتصادية مع الإقليم باستمرار مشاركة حكومته في دعم العمليات العسكرية التركية في جبال قنديل وشمال العراق ضد عناصر العمال الكردستاني.
ختاماً، يمكن القول إن ثمة اهتماماً لدى حكومة أربيل بتعزيز الانفتاح على محيطها الإقليمي والدولي لتكوين شراكات استراتيجية يمكن توظيفها كأوراق ضاغطة في خلافاتها مع الحكومة المركزية في بغداد. وهنا، فإن العلاقات مع واشنطن وأنقرة تكتسب أولوية مهمة في هذا التوقيت، بالنظر إلى حجم الارتباطات مع البلدين، فضلاً عن كون الإقليم يمثل ورقة رابحة لواشنطن وأنقرة لتعزيز حضورهما داخل الساحة العراقية، سواء لمواجهة التمدد الإيراني أو مكافحة التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة.