يمكن تفسير سعي إيران إلى ممارسة ضغوط على المليشيات الموالية لها من أجل وقف الهجمات ضد القواعد الأمريكية، في ضوء دوافع أربعة رئيسة تتمثل في استيعاب التهديدات الأمريكية بتوجيه ضرباتٍ داخل إيران نفسها، واستدراك عواقب وقوع أخطاء في الحسابات، وتقديم محفزات جديدة للانسحاب العسكري الأمريكي من العراق، وتجنب التعرض لخسائر على مستوى القيادات العسكرية. لكنّ وقف الهجمات ربما يكون خطوة تكتيكية لاستيعاب الضربات الأمريكية الحالية، حيث سرعان ما يمكن أن تُستأنف في حال حدوث تغير في معادلة التصعيد الحالية.
تراجعت الهجمات التي تشنها المليشيات الشيعية الموالية لإيران ضد القواعد الأمريكية في كل من العراق وسوريا. ورغم أن ذلك ربما يكون نتيجة للضربات القوية التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد مواقع وقواعد تلك المليشيات، خلال فترة ما بعد الهجوم الذي نفذته ما يسمى “المقاومة الإسلامية” ضد القاعدة الأمريكية في شمال شرق الأردن “البرج 22” في 28 يناير الفائت؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن هذا التوجه الجديد، الذي ربما يكون مؤقتاً، جاء -في الغالب- بناءً على ضغوط مارستها إيران على تلك المليشيات للتوقف عن شن مزيدٍ من الهجمات.
إذ أشارت تقارير عديدة إلى أن قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري إسماعيل قاآني قام بزيارة للعراق، في بداية فبراير الجاري، وعقد اجتماعات مع قادة المليشيات الشيعية في مطار بغداد، لإقناعها بالتوقف عن شن مزيدٍ من الهجمات، ولا سيما بعد أن تسبب الهجوم الذي وقع في الأردن في مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة نحو أربعين آخرين. وبحسب هذه التقارير، فإنه منذ 4 فبراير الجاري لم تقع هجمات ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا.
وبصرف النظر عما إذا كان قاآني قد قام فعلاً بزيارة العراق من عدمه، خاصة أن تقارير إيرانية نفت ذلك، مثل موقع “جوان” التابع للحرس الثوري، واعتبرت أن التقارير السابق ذكرها متناقضة؛ إلا أنّ ذلك -في مجمله- لا ينفي أن إيران ربما لديها مصلحة في وقف التصعيد الحالي، أو على الأقل تقليص مستوى الهجمات التي تتعرض لها القواعد الأمريكية، حتى لو كان ذلك بشكل مؤقت.
دوافع عديدة
يمكن تفسير اتجاه طهران إلى تبنّي هذا النهج الجديد في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استيعاب التهديدات المباشرة لبايدن: جاءت التحركات الأخيرة التي قامت بها إيران لممارسة ضغوط على وكلائها في العراق وسوريا من أجل وقف الهجمات ضد القواعد الأمريكية، بعد أن تبين لها أن تلك السياسة يمكن أن تتسبب في تعرضها لضربات عسكرية مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. إذ إن سقوط قتلى أمريكيين في الهجوم الذي وقع في الأردن، في 28 يناير الفائت، وضع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أمام خيارات محدودة، وبالتالي دفعها إلى توجيه تهديدات لإيران بأنها جادة في توجيه ضربات عسكرية داخل أراضيها رداً على تلك الهجمات.
وقد كشفت تقارير عديدة، في 14 فبراير الجاري، أن لقاءات مباشرة عقدت بين مسؤولين أمريكيين وإيرانيين (ربما في نيويورك حيث تتواجد الممثلية الإيرانية في الأمم المتحدة) كشفوا فيها عن أن الإدارة الأمريكية جادة في تنفيذ هذه التهديدات في حالة ما إذا لم تقم إيران بالضغط على المليشيات الشيعية الموالية لها بالتوقف عن مهاجمة القواعد الأمريكية في العراق وسوريا.
2- استدراك عواقب أخطاء الحسابات الإيرانية: يبدو أن دوائر أمنية وسياسية في إيران أدركت أن ما حدث في 28 يناير الفائت، عندما أسفرت الضربة التي وجهتها “المقاومة الإسلامية” إلى القاعدة الأمريكية في الأردن عن سقوط ثلاثة قتلى أمريكيين، كان خطأ فادحاً، لأنه عرّض الإدارة الأمريكية لضغوط داخلية قوية، وأدى إلى تجاوز قواعد الاشتباكات التي تم الالتزام بها منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، في 7 أكتوبر الماضي، على خلفية عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها “كتائب القسام” (الذراع العسكرية لحركة حماس).
ومن هنا، فإنّ إيران سارعت إلى مطالبة تلك المليشيات بالتوقف عن تلك الهجمات خشية ارتكاب خطأ جديد في الحسابات قد يؤدي إلى سقوط قتلى أمريكيين، وبالتالي دفع إدارة الرئيس بايدن إلى تنفيذ تهديدها بمهاجمة الأراضي الإيرانية، وهو ما يمثل أحد المحظورات التي سعت إيران باستمرار إلى تجنبها، لأنه سيفرض عليها خيارات محدودة أيضاً، وسيدفعها إلى الرد عسكرياً على تلك الهجمات، على نحو يمكن أن يساهم في اندلاع مواجهة مباشرة تحاول إيران تفاديها بكل السبل.
3- توفير دوافع جديدة لانسحاب القوات الأمريكية من العراق: كان لافتاً أن تراجع الهجمات التي تعرضت لها القواعد الأمريكية في العراق توازى مع استمرار المباحثات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية بشأن سحب جميع القوات الأمريكية من العراق والتي يصل عددها إلى نحو 2500 عسكري، تتمثل مهمتهم في تقديم خدمات استشارية وتدريبية للقوات الأمريكية في إطار مواجهة احتمالات عودة تنظيم “داعش” إلى مواصلة عملياتها الإرهابية مرة أخرى.
وربما يكون ذلك نتيجة الجهود التي تبذلها الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني، التي طالبت إيران مراراً بالتدخل لدى المليشيات من أجل وقف هجماتها، وبالتالي تعزيز موقعها التفاوضي في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، التي يمكن أن تعتبر أن تلك الهجمات تمثل عائقاً أمام إتمام عملية الانسحاب العسكري.
وربما كان ذلك أحد المحاور الرئيسة في المحادثات الأمنية التي أُجريت بين المسؤولين العراقيين والإيرانيين خلال الزيارة التي قام بها أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي أكبر أحمديان إلى العراق، في 5 فبراير الجاري، والتي توازت بشكل لافت مع توقف الهجمات التي تتعرض لها القواعد الأمريكية في العراق.
4- تجنب استهداف القيادات الإيرانية من قبل واشنطن: قرأت إيران الضربات العسكرية التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى المليشيات الشيعية في العراق وسوريا، بداية من 3 فبراير الجاري، على أنها تمثل رسالة مباشرة لها. فرغم أن هذه الضربات لم تسفر عن سقوط قتلى إيرانيين، إلا أن إيران اعتبرت أنها إشارة تحذير من أن استمرار الهجمات التي تتعرض لها القواعد الأمريكية معناه أن القيادات العسكرية الإيرانية في العراق وسوريا سوف تكون في مرمى الأهداف الأمريكية، على غرار السياسة التي تتبناها إسرائيل، وتسعى من خلالها إلى اغتيال القيادات العسكرية الإيرانية في سوريا تحديداً، وكان آخرهم قائد استخبارات الحرس الثوري في سوريا حجة الله أميدوار الذي قتل مع نائبه حسين آغازاده في 20 يناير الفائت.
خطوة تكتيكية
مع ذلك، لا يمكن القول إن وقف الهجمات ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا يمثل قراراً استراتيجياً اتخذته المليشيات الشيعية بضغط من إيران. إذ إنها خطوة تكتيكية لاستيعاب الضربات العسكرية التي وجّهتها الولايات المتحدة الأمريكية، وربما تواصلها في المرحلة القادمة، في ظلّ الضغوط التي تتعرض لها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من جانب بعض أقطاب الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فضلاً عن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المرشح المحتمل في الانتخابات الرئاسية القادمة، والذين يبدون تحفظات عديدة إزاء السياسة التي تتبناها الإدارة الحالية في إدارة التصعيد مع إيران ووكلائها.
ومن هنا، فإن هذه الهجمات قد تُستأنف من جديد في ضوء احتمالين؛ أولهما: خروج إحدى المليشيات الشيعية عن الإجماع الذي بدا واضحاً في توقف جميع الهجمات منذ 4 فبراير الجاري، وبالتالي العودة إلى استهداف القواعد الأمريكية. وثانيهما: استمرار الضربات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية ضد تلك المليشيات، على نحو يمكن أن يدفعها إلى الرد، ولا سيّما في حالة ما إذا تعرضت لخسائر بشرية لا يمكن استيعابها بسهولة، على نحو يوحي في النهاية بأن “التهدئة القلقة” تمثل عنواناً رئيسياً لما يجري حالياً بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة وإيران والمليشيات الشيعية الموالية لها من جهة أخرى.