سعت تركيا مؤخراً إلى تعزيز وجودها في منطقة شرق ليبيا، وهو ما انعكس في إعلان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في تصريحات له في 7 فبراير الجاري، خلال زيارته للعاصمة الليبية طرابلس، عن قرب إعادة افتتاح بلاده قنصليتها في بنغازي، وتطوير العلاقات مع حكومة شرق ليبيا، وشدد خلال مؤتمر صحفي مشترك، عقده مع نظيره المالطي في العاصمة فاليتا، وقبل توجهه إلى طرابلس، على أن “تركيا لا ترغب في رؤية اشتباكات بين شرق ليبيا وغربها أو أي اشتباكات في جنوبها”، وأشار إلى وجود تقدم تدريجي في علاقات تركيا مع الشرق الليبي.
تحركات مكثفة
تتجه تركيا، فيما يبدو، عبر خطوات متتالية، نحو تعزيز حضورها في منطقة شرق ليبيا، وظهر ذلك في إعلان أنقرة على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان عن قرب افتتاح قنصلية تركية في بنغازي. كما أكد فيدان عشية زيارته الأولى من نوعها إلى ليبيا منذ توليه حقيبة الخارجية في يونيو الماضي، على دعم بلاده للوصول للاستحقاق الانتخابي في ليبيا، وخطوات ملف المصالحة الوطنية.
وتتوازى هذه الخطوة مع نمو العلاقات التجارية والاستثمارية بين تركيا وشرق ليبيا في الآونة الأخيرة، حيث نظم مجلس الأعمال الليبي التركي في أغسطس 2023، لأول مرة منذ العام 2011 “معرض الصناعات التركية” بمدينة بنغازي، شرق البلاد، وبمشاركة 38 شركة تركية ونحو 65 رجل أعمال تركياً. كما يُشار إلى أن تركيا تحتل المرتبة الثالثة على قائمة أكبر الدول المصدرة للشرق الليبي. كما حصلت الشركات التركية على عدد واسع من عقود إعمار مدينة درنة الليبية عشية الفيضانات التي دمرت المدينة في سبتمبر 2023. وتجدر الإشارة إلى أن تركيا كانت من أوائل الدول التي سارعت إلى إنقاذ المدينة المنكوبة، حيث أرسلت سفينتين حربيتين إلى ليبيا، كما تعهد الرئيس التركي بـ”ضمان تضميد جراح ليبيا بأقرب وقتٍ”. كما قام السفير التركي لدى طرابلس بزيارة درنة، والتقى رئيس حكومة شرق ليبيا أسامة حماد.
فضلاً عن ذلك، اتجهت تركيا إلى تطوير علاقاتها مع المشير خليفة حفتر الذي يمسك بمفاصل شرق ليبيا، وتجلى ذلك في استقبال تركيا خلال الأشهر الأخيرة بعض الوفود العسكرية من شرق ليبيا، ثم جاءت زيارة رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح لتركيا في أغسطس 2022 وديسمبر 2023 لترتيب المواقف وتعزيز التنسيق. كما عملت أنقرة على دعم العلاقة مع حلفاء شرق ليبيا الإقليميين، وبخاصة القاهرة وأبو ظبي وموسكو، وتبنت أنقرة سياسة إقليمية متوازنة حيال الملف الليبي لضمان تأمين مصالحها ودورها المستقبلي في الساحة الليبية، وهنا، يمكن التحرك التركي لتوسيع مساحات التفاهم والتنسيق مع القاهرة فيما يخص ليبيا.
اعتبارات متنوعة
يكشف إعلان أنقرة عن قرب افتتاح قنصليتها في مدينة بنغازي عن أدوات جديدة في السياسة الخارجية التركية إزاء الساحة الليبية، تعتمد على عناصر القوة الناعمة، بعدما عجزت عن تقزيم شرق ليبيا أو على الأقل تحقيق اختراقات جذرية معه باستخدام عناصر القوة الصلبة، وهو ما يثير تساؤلات عن أسباب هذا التحول وتوقيته. ولذلك، فإن ثمة اعتبارات عديدة تقف وراء توجه تركيا نحو إعادة افتتاح قنصليتها في ليبيا، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- زيادة الفرص الاستثمارية لأنقرة في ليبيا: تبذل تركيا جهوداً حثيثة من أجل تعزيز قدرتها على منافسة بعض القوى الإقليمية والدولية التي تبدي اهتماماً خاصاً بتطوير العلاقات مع شرق ليبيا، بما قد يحقق لها مكاسب تجارية واستثمارية عديدة، ولا سيما في ظل أزمة العديد من الشركات التركية بفعل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، وحاجتها للحصول على فرص استثمارية أوسع لأنشطتها في الخارج.
2- دفع العلاقات الاقتصادية التركية الليبية: ثمة قناعة لدى أنقرة في التوقيت الحالي بأن معالجة القضايا الشائكة مع الشرق الليبي يمكن أن تساهم في زيادة حجم المبادلات التجارية بين تركيا وليبيا، والذي يصل في التوقيت الحالي إلى نحو 4 مليارات دولار. كما تدرك تركيا حالياً أن مستوى تبادلها التجاري مع الشرق يمكن أن يساهم في زيادة معدل التجارة، بالإضافة إلى توفير فرص لزيادة صادرات تركيا للأسواق الليبية، وهو ما يتوافق مع اتجاهها أيضاً نحو دعم صادراتها في بعض الأسواق الاستراتيجية، والتي تحظى فيها السلع التركية بقبول شعبي واسع، مثل ليبيا.
3- رغبة تركيا في تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية: تُبدي تركيا اهتماماً لافتاً في التوقيت الحالي بتطوير وجودها في أفريقيا، خاصةً بعد تراجع النفوذ الفرنسي، والانقلابات التي شهدتها بعض دول غرب أفريقيا، مثل مالي وبوركينافاسو والنيجر، وهو ما وفّر بيئة خصبة لتعظيم الوجود التركي في أفريقيا، وظهر ذلك مؤخراً في زيارة رئيس وزراء النيجر لأنقرة في 2 فبراير الجاري ولقائه الرئيس أردوغان، ناهيك عن التطور الحادث في حجم التبادلات التجارية بين أنقرة وأفريقيا، والذي زاد 7.5 مرات خلال السنوات العشرين الماضية وبلغ 40.7 مليار دولار بنهاية العام 2023. في هذا السياق، تُمثل ليبيا أولوية في الاستراتيجية التركية التي تستهدف تعزيز الحضور في أفريقيا، بالنظر إلى موقع ليبيا في القارة الأفريقية، ناهيك عن إمكانية توظيف ليبيا كقاعدة لوجستية لدعم التحركات التركية في أفريقيا، وبخاصة في دول الساحل والصحراء.
4- تطوير الشراكة مع القوى الإقليمية والدولية: ترى تركيا أن دعم العلاقة مع شرق ليبيا، والوصول إلى تسوية للملفات الخلافية، يمثل فرصة جيدة لتطوير علاقات تركيا مع القوى الإقليمية والدولية التي تدعم حكومة الشرق الليبي، والجيش الوطني، حيث يمكن أن يحقق لها مناخاً أفضل لتعزيز مساحات التنسيق والتفاهم مع مصر والإمارات وروسيا واليونان والسعودية، وهو ما سينعكس على تقوية المناعة الإقليمية والدولية لتركيا، وحل جانب معتبر من خلافاتها مع دول الإقليم. وفيما يبدو، فإن توجه تركيا لإعادة افتتاح قنصليتها في شرق ليبيا قد يُمثل نقطة تحول استراتيجية في الشراكة السياسية بين تركيا ودول الإقليم لتسوية الأزمة الليبية، من خلال الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية ودعم إجراء العملية الانتخابية.
5- استحواذ شرق ليبيا على أكبر الحقول النفطية: يمثل متغير الطاقة أحد الاعتبارات المهمة وراء التحرك التركي ناحية شرق ليبيا، حيث تقع مكامن الثروة النفطية شرق البلاد، حيث يوجد حقل الشرارة أكبر الحقول النفطية الليبية، وحقل الفيل الذي يغطي مساحة واسعة في الجنوب الليبي. كما تشير العديد من التقديرات إلى وجود مكامن محتملة للطاقة قبالة السواحل الشرقية لليبيا. كما يمثل نفط شرق ليبيا أولوية لتركيا في هذا التوقيت، بالنظر إلى استمرار العقوبات الغربية على قطاع النفط الروسي الذي يلبي ما يقرب من 60% من احتياجات تركيا، بالإضافة إلى تراجع واردات الطاقة من الشرق الأوسط بسبب الهجوم الحوثي على ناقلات النفط في البحر الأحمر.
حضور متدرج
في الختام، يمكن القول إن تركيا تتحرك تدريجياً نحو تعزيز حضورها في شرق ليبيا من خلال إصلاح العلاقات مع الكيانات الحاكمة، باعتبار ذلك مدخلاً مهماً لتعزيز مكاسبها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية في ليبيا، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ بيد أن هناك تحديات تعيق الدور التركي، في الصدارة منها محدودية مساحات الثقة بين أنقرة وحفتر، بالإضافة إلى اعتماد حكومة شرق ليبيا بالأساس في المجال الأمني على قوات فاغنر الروسية، وهو ما قد يضع حدوداً على تحركات تركيا المتنامية تجاه شرق ليبيا.