قال الأستاذ نبيه بري، رئيس المجلس النيابي في لبنان، للسفيرين السعودي والمصري اللذين زاراه في بيروت بحثاً عن مخرجٍ ممكنٍ من الأزمات المتراكبة بالداخل، علماً بأن الدولتين السعودية والمصرية أعضاء في اللجنة الخماسية المعنية بالشأن اللبناني – قال بري: «صحة البلد مش منيحة وبسقط بالملف اللبناني!».
لا يملك الرئيس بري أن يقول أكثر مما قال. فمنذ أيام الجنرال عون في الرئاسة كان الرئيس يقرر في كل مناسبة أنّ لوضع الحزب شقين: الشق الداخلي، وهو – أي الحزب – لا يستخدم سلاحه بالداخل (وهذا غير صحيح)، والشق الآخر خارجي ويتعلق بأزمة الشرق الأوسط، وهذا الجانب لا حلَّ له أو لا مخرج من سلاح الحزب إلاّ بانتهاء الأزمة بشأن القضية الفلسطينية! وما كان أحدٌ بالداخل اللبناني من المعنيين بالشأن العام يجهل أو يتجاهل ارتباط الحزب بإيران. لكنّ الكثيرين كانوا يأملون بفصل قرار الداخل عن الارتباطات الخارجية. في حين كان الحزب يُصرُّ على الارتباط الشديد، فهو لا يأمن على سلاحه وموقعه الإقليمي والدولي إلا إذا كان آمناً بالداخل لجهة السيطرة على مواقع القرار وعلى رأس تلك المؤسسات رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة وقيادة الجيش، فضلاً عن سيطرته على رئاسة مجلس النواب! وكلُّ ذلك ثبت الآن بما لا يدع مجالاً للشك، فرئاسة الجمهورية خالية لأن الحزب يملك مرشحاً لها لا يحيد عنه من أجل الأمن والأمان – وهو يخوض الآن حرباً على الحدود مع إسرائيل بداعي نُصرة «حماس» في الحرب الطاحنة على غزة. وقد سلَّم له رئيس الحكومة اللبنانية ووزير الخارجية بأنه لا نهاية للحرب على الحدود إلاّ بانتهاء الحرب على غزة، فالحزب هو الذي يملك قرار الحرب والسلم وليس الحكومة، رغم القرار الدولي الرقم 1701 الذي يمنع وجود الحزب جنوب نهر الليطاني، ورغم وجود الجيش والقوات الدولية بالمنطقة الحدودية.
لا تعاني الدولة الوطنية اللبنانية وحدها من وجود التنظيم المسلَّح القوي على أرضها. فالتنظيمات الإيرانية المسلحة بالدواخل العربية هاجت كلها وتحركت في العراق وسورية واليمن، وتارةً ضد الكيان الصهيوني وطوراً ضد الولايات المتحدة. وبالفعل ضد السلطات الوطنية بالداخل.
هناك بلدان عربية مثل السودان وسوريا كانت متعودةً على الانقلابات العسكرية. إنما الجديد في العقود الأخيرة أنّ المشهد تعدد إذا صحَّ التعبير؛ إذ ما عادت الجيوش قادرةً على السيطرة على المشهد الداخلي، ونافستها التنظيمات المسلَّحة أيضاً كما في ليبيا والسودان. وكما تجد تلك التنظيمات غلبةً أو شرعية بالدعم الخارجي أو بالاحتضان الفئوي الداخلي كما في حالات «حزب الله» و«الحوثيين» و«الحشد الشعبي» و«الدعم السريع»؛ فإنّ الأمل يتضاءل بإمكانات الضعف أو التجاوز أو التفاوض الداخلي. وتأتي القوة القتالية والشعبية لـ«حماس» وزميلاتها في فلسطين، مع استمرار الاحتلال، لتشكّل تحدياً آخر لإمكانات قيام دولة وطنية عربية في فلسطين خارج الاحتلال.
الأمل الذي لا شفاء منه عربياً هو في قيام الدولة الوطنية المدنية من دون تنظيماتٍ مسلَّحة صارت تحمل شعاراتٍ إسلامية. في المشرق العربي ما عادت هناك غير واحة الاستقرار والتنمية في الخليج ومصر. وقد تقدمت جميعاً إلى الواجهة بعد الحرب الأخيرة على غزة. وقد كانت للمملكة العربية السعودية الريادة عندما عقدت مؤتمر القمة العربية – الإسلامية بالرياض التي دعت إلى إنهاء الحرب، وإقامة الدولة الفلسطينية بحسب القرارات الدولية، والمبادرة العربية للسلام عام 2002. والمشهد الآن صيرورة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين للقول بحلّ الدولتين، وأن يكون ذلك بدعمٍ عربي.
وما اكتفت السعودية بذلك، بل فاوضت طوال سنتين وأكثر على حلٍ باليمن. كما أقامت مع الولايات المتحدة منصة جدة للحلّ بالسودان. وأعادت مع العرب الآخرين سوريا إلى الجامعة العربية، وتوسطت لحلٍ بين الأردن وسورية. وهي تسعى مع اللجنة الخماسية لإخراج لبنان من أزماته، ومن بينها انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. وما أدت تلك المبادرات إلى تهدئةٍ أو حلول حتى الآن، بسبب وجود التنظيمات المسلحة في تلك الدول، ووجود الاحتلال في فلسطين، والارتباطات الخارجية المعيقة للتنظيمات.
لا تستطيع التنظيمات المسلحة إقامة سلطاتٍ وطنيةٍ وليس ذلك من أهدافها. وهي لا تزدهر وتتمدد إلاّ في ظروف الفوضى والانقسام والنزاعات الداخلية. والموجودون من المدنيين في السلطة في مختلف البلدان إما حلفاء للتنظيمات أو مستسلمون لها. ولذلك؛ فإنّ الدائرة تبدو مغلقة، مغلقة على ماذا؟ على الفوضى والنزاعات وصراعات المكان والزمان.
لقد كان الأميركيون والأوروبيون مغرمين دائماً بالانتخابات. وهذا هو ما بدوا عليه في عام 2011 في العالم العربي. لكنهم في أفريقيا أخيراً سلَّموا بالانقلابات العسكرية، وحاولوا الحلول محلَّ فرنسا هناك، بحجة حفظ الاستقرار، والصراع ضد الإرهاب. لقد بدوا في مظهر خمسينات القرن العشرين عندما حلَّوا محلَّ بريطانيا وفرنسا وبالانقلابات العسكرية! فإلى أين يتجهون الآن؟ فالإرهاب لم يَزُل رغم الحرب العالمية عليه، ومهادنة الحوثيين لم تؤتِ ثمارها وهم – مع بريطانيا – يحاولون ضربهم الآن لوقف هجماتهم على أمن البحر الأحمر والحركة التجارية الدولية. والأميركيون يصرّحون الآن بأنّ إيران وراء ذلك الشرّ كلُّه؛ رغم أنهم يفاوضون لكي لا تتوسع الحرب. الأميركيون ليسوا ضعفاء في الشرق الأوسط. فقواعدهم منتشرة في كل مكان. وما عادوا في وارد الانسحاب من المشرق وأفريقيا لصالح الجبهتين مع الصين ومع روسيا. لأنهم أدركوا أنّ الانسحاب يعني أمرين: حلول الصين وروسيا محلَّهم، واستفحال التنظيمات المسلحة المعادية لهم بالدواخل. ولذلك؛ يبدو إقدامهم بقوةٍ على حلّ الدولتين طليعةً لسياساتٍ جديدةٍ بالمنطقة رغم التردد والاضطراب.
ماذا أقصد من عرض المشهد الجديد رغم الدوائر المغلقة؟
الذي أقصده أن جهود العرب من أجل استعادة الدولة الوطنية، يمكن أن تتلاقى مع التحولات الأميركية وابتداءً بقضية فلسطين واستمراراً في مواطن الاضطراب الأخرى، وبخاصةٍ أنهم شركاء في منصة السودان بجدّة، والخماسية في قضية لبنان، ثم إنهم شركاء عمليون في أمن البحر الأحمر. وقد أقامت دول الاستقرار والتنمية العربية شراكاتٍ مع الصين وروسيا بحيث لن تجد مساعي الاستقرار والسلطات الوطنية الواحدة معارضاتٍ وتحديات دولية لأنّ العرب الحلفاء يتصدرون فيها، وبخاصةٍ أنهم لا يسهمون في الفوضى والانقسام، بل يعملون من أجل الاستقرار والسلام في المنطقة والعالم. هناك قضايا كبرى تتلاقى فيها المصالح العربية مع المصالح العالمية، باعتبار القواسم المشتركة في الأمن والاستقرار، وصنع التقدم. إنّ المسار العربي للأمن والاستقرار والتنمية والوحدة هو مسارٌ عالميٌّ لا يملك طرفٌ معتبر اليوم بديلاً له؛ ولذلك لا بد من السير فيه ليصبح الحقُّ استحقاقاً، هو استحقاق الدولة الوطنية العربية ذات الإسهام في أمن شعوبها وأمن العالم وتقدمه.
نقلا عن الشرق الأوسط