سعت الصين خلال السنوات الماضية إلى صياغة إطار طموح لتطوير علاقات متعددة مع الجهات الفاعلة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط. وارتبط هذا الإطار بمحاولة بكين تقديم نفسها كقوة رئيسية في النظام العالمي، وتمتلك الحق في المشاركة في قيادة هذا النظام، وهو ما يجعل منطقة الشرق الأوسط ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للصين بوصفها ساحة للتنافس بين العديد من القوى الدولية، ناهيك عن المصالح الاقتصادية للصين في المنطقة، سواء من منظور إمدادات الطاقة، أو حتى ارتباط المنطقة بمبادرة “الحزام والطريق”.
وفي هذا الإطار، نشر معهد الشرق الأوسط في سبتمبر الماضي مقالًا بعنوان “سعي الصين إلى مصالح الصين ونهجها في المنطقة الذي يركز على تطوير العلاقات مع عدد محدد من دول الشرق الأوسط الرئيسية التي يمكن أن تكون بمثابة نقاط ارتكاز استراتيجية لبناء النفوذ الصيني”.
المنافسة دون مواجهة
ينطلق المقال من تأطير نهج السياسة الخارجية للصين في الشرق الأوسط بوصفها تعبيرًا عن نموذج “دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية”. وتصور هذه الرؤية السياسة الخارجية الصينية في العالم النامي كوسيلة لتغيير ميزان القوى الدولي. وضمن هذا الإطار، تسعى الصين إلى إقامة علاقات وثيقة مع القوى الإقليمية في الشرق الأوسط من أجل تأمين الوصول إلى موارد الطاقة الحيوية، وتوسيع نطاقها التجاري، وتعزيز نفوذها السياسي.
وبينما ترى بكين أن الهيمنة الأمريكية في المنطقة تتراجع، فإنها حذرة في جهود توسيع النفوذ الإقليمي. حيث تتخوف من عدم مقدرتها على القيام بالدور الذي تلعبه واشنطن في المنطقة، خاصة عند التعاطي مع آثار عدم الاستقرار والذي لا يفيد الصين.
وبالرغم من ذلك، فإن “جيسي ماركس” يرى أن بكين تنتهج منافسة عالمية مع الولايات المتحدة في المنطقة؛ حيث تتخذ خطوات تدريجية لتضع نفسها في مكانة مناسبة لظهور القطبية الإقليمية، استنادًا إلى المنافسة الاستراتيجية الصينية الأمريكية في الشرق الأوسط. وتعطي الصين الأولوية للعلاقات الثنائية مع شركاء الولايات المتحدة في المنطقة، خاصةً إسرائيل والسعودية ومصر والإمارات، في إطار من الحذر النابع عن الرغبة الصينية في تجنب أي فعل قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
وفي هكذا سياق، يقوم نهج “المنافسة بدون مواجهة” الصيني على تطوير العلاقات مع عددٍ من دول الشرق الأوسط الرئيسية التي يمكن أن تكون بمثابة “نقاط ارتكاز استراتيجية” لبناء النفوذ الصيني. وتعني “نقطة الارتكاز الاستراتيجية” من منظور السياسة الخارجية الصينية، أن تعمل الدولة الأجنبية كقناة للتأثير وتعزيز المصالح الصينية في أربعة مجالات: الجيش، والأيديولوجيا، والاقتصاد، والسياسة الدولية. ويقوم نهج “المنافسة بدون مواجهة” على تطوير علاقات استراتيجية مع الدول الرئيسية التي يمكن أن يدعم تعزيز العلاقات معها مكانة الصين الإقليمية والعالمية، وإبراز نفوذ الصين في مناطق جغرافية جديدة.
المرتكزات الصينية
تعتمد الاستراتيجية الصينية، بحسب ماركس، في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة تجاه الدول العربية، على عدد من المرتكزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- مرتكزات عسكرية وأمنية: وهي تشير إلى تلك العلاقات الاستراتيجية التي تمكن الصين من إبراز قوتها العسكرية من خلال التعاون الأمني، والانتشار العسكري، وإنشاء وجود عسكري دائم. وفي هذا الإطار، يجادل بعض الباحثين الصينيين بأن الدبلوماسية العسكرية الصينية تهدف إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع الشركاء الاستراتيجيين باستخدام العلاقات العسكرية، وتهدئة مخاوف الدول من طموحات الصين الاستراتيجية، وتعميق التعاون العسكري الذي لا يقتصر على العلاقات بين الدول في المجال العسكري، وإنما يتعلق أيضًا بتوسيع نظام الحماية الدولية الصيني لتأمين مصالحها الاستراتيجية في نطاق مبادرة “الحزام والطريق”.
وقد وسّعت الصين من وجودها العسكري في الشرق الأوسط من خلال اتفاقيات التعاون، وإجراء محادثات مع الدول حول القوات المسلحة، والشرطة، ومكافحة الإرهاب، والأمن غير التقليدي، مثل جهود مكافحة القرصنة، في نطاق مبادرة “الحزام والطريق”. وهو ما يشمل اتفاقيات تبادل المعلومات الاستخبارية، والتدريب الأمني المشترك، كما يتضمن تواجدًا عسكريًا صينيًا متزايدًا في المنطقة من خلال نشر سفن حربية صينية لمراقبة خليج عدن، ودعم جهود استكمال القاعدة البحرية الصينية في جيبوتي.
ورغم أن هذه الاتفاقيات لا تزال محدودة نسبيًا مقارنةً بالتعاون العسكري والدفاعي والأمني الأمريكي في المنطقة، فإن الصين تبني قدرتها الإقليمية على إبراز قوتها العسكرية. وفي هذا الصدد، يشير البعض إلى توظيف بكين لمنظمة شنغهاي للتعاون في حل التحديات الإقليمية للأمن، إذ تمثل المنظمة أداة محتملة قوية لبناء نفوذ استراتيجي، وخصوصًا مع النقاش المعلق حول تحول إيران من مراقب إلى عضوية كاملة، فضلًا عن تمتع تركيا بوضع المراقب. كما تقدمت سبع دول في منطقة الشرق الأوسط (إسرائيل، السعودية، البحرين، قطر، مصر، سوريا، العراق) بطلبات للحصول على مستويات مختلفة من العضوية. كما التقى الأمين العام لمنظمة شنغهاي للتعاون، فلاديمير نوروف، في ديسمبر 2019، بوفد من جامعة الدول العربية والسفراء العرب لدى الصين وشخصيات بارزة من أكثر من 15 دولة شرق أوسطية لتحفيز التعاون الأمني والتجاري بين المنظمة وجامعة الدول العربية، خاصة في ظل تركيز المنظمة على مكافحة الانفصالية والتطرف والإرهاب.
2- مرتكزات أيديولوجية: يستند الانتشار الأيديولوجي للصين على حماية السيادة الوطنية، وتصدير التنمية المحلية والخبرة السياسية. حيث يُعتبر الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، حجر الزاوية في السياسة الخارجية الصينية، خاصة في كسب دعم وتضامن دول الشرق الأوسط، من أجل إعادة التوحيد الوطني لتايوان، والحد من الانتقادات المحتملة لمعاملة بكين لمسلمي الإيجور. وتعزز بكين أيضًا تنميتها وتجربتها السياسية كبديل للنيوليبرالية. وتطرح نموذجًا للتنمية بقيادة وطنية وحوكمة الدولة القوية.
وفي هذا السياق، يُشير المقال إلى أن الصين تعمل بنشاط على تعزيز أيديولوجيتها ونموذجها التنموي من خلال الدورات التدريبية للأحزاب السياسية في الدول النامية، وهو ما ظهر في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كاستراتيجية مهمة لتعزيز النفوذ الصيني مع القادة السياسيين في إفريقيا، وأضحى قيد التنفيذ في الشرق الأوسط. حيث أصبحت منصة حوار الأحزاب السياسية الصينية العربية آلية جوهرية للتبادل الأيديولوجي في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنصة التي أطلقها الحزب الشيوعي الصيني عام 2019، لتعزيز الشراكة مع السياسيين العرب.
وظهرت تجليات هذا التوجه الصيني حينما عقد ممثلو 68 حزبًا سياسيًا من منطقة الشرق الأوسط في يونيو 2020، حيث أعرب قادة الأحزاب العربية عن دعمهم لسياسات الصين تجاه شينجيانج وتايوان والتبت وقانون الأمن القومي الجديد لهونج كونج. ويخطط الحزب الشيوعي الصيني لدعوة 200 زعيم من الدول العربية إلى الصين سنويًا في السنوات الثلاث المقبلة، لتعزيز العلاقات المتبادلة والدعم الإقليمي للأيديولوجيا السياسية الصينية.
3- مرتكزات اقتصادية: تعمل الصين على تحفيز العلاقات الاقتصادية مع الشركاء المهمين للتوسع الاقتصادي لبكين، والتوسع في مناطق جديدة، مثل شركاء مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ومشاريع طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين. وتتكون العلاقات الاقتصادية من اتفاقيات الاستثمار، والاتفاقيات التجارية (التجارة الثنائية الحرة)، وتبادل العملات. وفي هكذا سياق، وقّعت الصين اتفاقيات استثمار وتجارة وتعاون اقتصادي مهمة مع خمس دول شرق أوسطية هي: الإمارات، والسعودية، وإسرائيل، ومصر، وإيران. وتسعى بكين إلى إبرام صفقات في مجال الطاقة والاستثمار والتجارة مع شركاء منطقة الشرق الأوسط، كما تعمل على إيجاد سوق للرنمينبي في الشرق الأوسط، كجزء من مشروع تدويل هذه العملة الصينية.
4- مرتكزات دبلوماسية دولية: وهي تنطوي على آليات تشكل أو تعزز مكانة الصين الدولية داخل الأمم المتحدة، والمؤسسات الدولية، والمنظمات متعددة الأطراف. حيث يتحقق سعي الصين للاعتراف بها كقوة عظمى من خلال الدول الشريكة التي تدعم مكانة بكين السياسية العالمية. وتعزز بكين في الشرق الأوسط مكانتها العالمية من خلال علاقاتها الثنائية مع الدول العربية، وكذلك العلاقات متعددة الأطراف مع جامعة الدول العربية، حيث تُعزز هذه العلاقات صورة الصين العالمية ومكانتها كقوة عظمى.
وتربط بكين، بحسب المقال، اهتمامها بالأمن الإقليمي والتنمية في الشرق الأوسط بأجندة التنمية العالمية بموجب مبادرة “الحزام والطريق” باعتبارها منفعة عامة إيجابية للمنطقة والعالم. وقد ساعد استخدام الصين الاستراتيجي للدعاية الإنسانية وبناء السلام في النزاعات طويلة الأمد في هذا الأمر، ولا سيما في سوريا. حيث تُمكّن العلاقة مع سوريا بكين من لعب دور في تشكيل عملية السلام السورية من خلال موقعها في مجلس الأمن، ومن خلال دور في عملية أستانة. ويخلص المقال إلى أن الصين ستستمر في الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، ويساعدها على ذلك عوامل عديدة في مقدمتها جاذبية نموذج التنمية الوطنية الصيني للعديد من دول المنطقة. وبالرغم من تجنب الصين الاصطدام بالولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة، إلا أن الحضور الصيني في المنطقة سيؤدي، بشكل أو بآخر، إلى حدوث احتكاكات مع واشنطن التي ستستجيب للحفاظ على توازن قُوى ملائم في المنطقة.