نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 23 يناير 2024، جلسة استماع بعنوان “آليات المواجهة: كيف يمكن الحد من تهديدات الملاحة في البحر الأحمر؟”. واستضاف المركز القبطان صالح حجازي الخبير في الشؤون البحرية (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والدكتور هيثم عمران، والأستاذ عمرو عبد العاطي، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ محمد عمر، والأستاذ علي عاطف، والأستاذة ميرفت زكريا، والأستاذة نهلة عبدالمنعم.
تاريخ مضطرب
وتطرق القبطان صالح حجازي إلى تاريخ تهديدات الملاحة في البحر الأحمر والتي كانت مستمرة منذ عقود لكن ليس بالقدر الذي تسببت به جماعة الحوثي في اليمن حينما احتجزت في 19 نوفمبر 2023 حاملة المركبات “جالاكسي ليدر” المملوكة لإسرائيل وما تبعها من عمليات استهداف وصولاً للضربات الأمريكية البريطانية التي تم توجيهها لجماعة الحوثي في 11 يناير 2024.
وبالفعل، تم تهديد الملاحة في مضيق المندب والبحر الأحمر قديماً من تسعينيات القرن الماضي وليس مع تداعيات حرب غزة في 7 أكتوبر 2023، فقد كان يتم التهديد عبر عمليات القرصنة من قبل القراصنة في الصومال، وكان الأمر محدود الأثر فقد كان عبارة عن تسليح بسيط لدى القراصنة، والمواجهة كانت بسيطة وتمت عمليات المواجهة عبر مشاركة 38 دولة في وقف هذه التهديدات والتنسيق فيما بينها، وإقامة قواعد بحرية قريبة مثل القواعد الأجنبية المنتشرة في جيبوتي، كما أرسلت الدول سفناً بحرية لحماية تجارتها رغم أنها كانت تهديدات بسيطة، وكذلك كانت السفن تتبع أساليب بدائية لحماية نفسها وكانت فعالة بدرجة كبيرة حتى لا تحدث خسائر في الأرواح أو خسائر مادية.
تحول استراتيجي
وأشار حجازي إلى أن عملية التأمين للسفن من القرصنة كانت سهلة أيضاً، فكانت سفن القوات القريبة تتولى حماية السفن التجارية بداية من خليج عُمان وحتى عبور باب المندب فقط، لكن ما حدث بعد 7 أكتوبر 2023 أدخلنا في أمر مختلف من خلال تسليح متنوع وقوي من قبل جماعة الحوثي عبر استهداف السفن بالطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، فالخطورة صارت كبيرة تستهدف السفن ويمكن أن تؤدي لتدميرها وقتل ركابها.
وبدأ الأمر باستهداف الحوثيين للسفينة جالاكسي الإسرائيلية في 19 نوفمبر 2023 وهي مخصصة لحمل السيارات، وتم اختيارها بدقة من أجل تنفيذ عملية الهبوط المروحي واستعراض القوة لأن سطح السفينة واسع مخصص للسيارات، لذا تم إنزال جميع القوات من قبل الطائرة الهليكوبتر وتم اختيار مركب لم ترفع علم إسرائيل أو متجهة لها وتم احتجازها في ميناء محافظة الحديدة دون أي داعٍ، وكان الأولى إعلان استهداف أي سفن متجهة لإسرائيل قبل تنفيذ العملية وعدم جر المنطقة إلى هذا التصعيد وهذا القدر من الخسائر.
مواقف متباينة
تباينت مواقف الدول تجاه تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر كالتالي:
- التمسك الغربي بدعم مصالح إسرائيل وحمايتها: تم استغلال ما جرى من قبل الحوثيين في البحر الأحمر وتوظيفه من قبل الدول الغربية والإصرار على دعم إسرائيل بقوة، فهذا الأمر كان يمكن أن ينتهي وأن يتم إنهاء خطورة تهديد الملاحة في البحر الأحمر من خلال إعلان خطوط الملاحة عدم التوجه لإسرائيل واللجوء لتجميع بضائعها في دولة خارجية ثم توصيلها لإسرائيل بعيداً عن البحر الأحمر، لكن تمت إعادة سيناريو أوكرانيا في إسرائيل لمصالح ضيقة وتم التضحية بمصالح العالم، لذا فعملية الاستهداف للسفن ستستمر.
- 2- تضرر مصر بسبب تأثر إيرادات قناة السويس: زادت العوائق في باب المندب من تهديد قناة السويس فقد قلت السفن العابرة للقناة بنسبة 50%، فالسفن كانت تبلغ حوالي 60 سفينة يومياً تعبر القناة، لكن الآن تقلص الوضع كثيراً ويتم استهداف سفن الحاويات بنسبة كبيرة وليس السفن الأخرى، كما أن السفن إذا اتبعت طريق رأس الرجاء الصالح ستأخذ من 10-12 يوماً إضافياً بدلاً من العبور في قناة السويس مما يمثل أعباء كبيرة على حركة التجارة العالمية.
- 3- اتّباع الصين سياسة الحياد وحماية مصالحها: لم تنخرط الصين في هذا الصراع أو توجيه ضربات ضد جماعة الحوثي، بل لجأت لعدم تصدير أو تحويل سفن لإسرائيل، فشركةcosco” ” الصينية أعلنت أنها لن تنقل أي بضائع لإسرائيل، وهذا الأمر ساعد الصين ولم يضرها ولم يتم الاعتداء على سفنها، كما أن هذا الأمر لم يضر طريق الحرير الصيني البحري لأن بكين لم تدخل في مواجهة مع الحوثيين، وتعتبر هذه الشركة ثالث شركة شحن عالمية بعد “ميرسك” و”سي إم”، ولم تتضرر مصالحها واستمرت في العبور من قناة السويس.
كما أنّ “طريق كاركورا” الذي كلف الصين 60 مليار دولار والذي تضمن إنشاء ميناء جوادر في باكستان والمخصص للسفن العملاقة ضمن طريق الحرير لم يتضرر، لأن هذا الطريق تم عمله من الصين وصولاً لباكستان عبر ميناء جوادر ثم قناة السويس لأنه بين جوادر وباب المندب أربعة أيام، ولذا فالممر البحري لطريق الحرير قائم على قناة السويس لأنه ساعده في التخلص من العديد من العوائق التي قد تصل لشهر كامل، وهذا بخلاف التهديدات الأمنية، وهذا الممر لم يتضرر نتيجة تصعيد الحوثيين، ولذا فالصين تنأى بنفسها عن هذا التصعيد.
- 4- عدم تضرر إسرائيل من الملاحة البحرية بدرجة كبيرة: رغم تصعيد إسرائيل وادعائها تضرر تجارتها في البحر الأحمر إلا أن موانئها لم تتضرر بشكل كبير، فميناء إيلات الذي يتم الحديث عن تضرره نتيجة أحداث البحر الأحمر ليست له قيمة وضعيف في الأساس، لكنّ الميناءين الرئيسيين في إسرائيل هما حيفا وأشدود، حيث تبلغ قدرتهما الاستيعابية حوالي 22 مليون طن سنوياً.
كما أن الحديث عن لجوء إسرائيل لتنفيذ مشروع قناة بن جورين لربط البحرين الأحمر بالمتوسط لتكون بديلاً عن قناة السويس لن يتم، لأنه سيتم حفرها بين جبلين، فالطبيعة الطبوغرافية الخاصة بفلسطين صعبة، وهذا الأمر يؤدي لاستحالة إنشاء هذه القناة، بخلاف الطول الذي يبلغ حوالي 170 كم، لذا لم يتم تنفيذها منذ عام 1967 حتى اليوم لاستحالة تنفيذها.
وأشار حجازي إلى سهولة معرفة بيانات ومسارات تحرك السفن من قبل جماعة الحوثي، فالأمر لا يحتاج لقدرات استخباراتية متقدمة، لأن كل البيانات متاحة عن السفن، سواء من خلال بيانات شركات الشحن ومعرفة مواعيد تحرك السفن وجهاتها، هذا بجانب وجود أجهزة تعرف لدى السفن وأجهزة أبراج مراقبة بسيطة لدى الحوثيين، ووجود رادار بسيط يسهل للحوثيين عملية استهداف السفن، وحتى حينما تعبر السفينة مضيق باب المندب وتغلق أجهزة التعارف تثير الشك، وبالتالي يتم استهدافها لأنها قد تنقل بضائع لإسرائيل.
- قيادة الولايات المتحدة عملية “حارس الازدهار”: سارعت واشنطن إلى قيادة عملية حارس الازدهار بزعم حماية السفن والملاحة الدولية لكنها تريد تحقيق مصالحها، فأمريكا لم تكن العماد الرئيسي لحماية السفن في البحر الأحمر قبل حرب 7 أكتوبر 2023، فقد كانت العديد من الدول تؤمن السفن من عملية القرصنة وما زالت موجودة، لذا فالأمن متوفر ومحمي ومصان خاصة من قبل دول المنطقة.
- 6- استعداد دول المنطقة العربية بطرق بديلة: فعّلت مصر والعراق والأردن خطاً مهماً وهو “الخط العربي” وأصبح نشطاً بشكل كبير حتى قبل أحداث البحر الأحمر لنقل البضائع من مصر إلى الخليج العربي، وفي حال تطور الأزمة يمكن تفعيل هذا الخط بشكل أكبر واستخدامه في حال تأثر التجارة بسبب تضرر قناة السويس إذا اتسعت حدة الصراع، فقد اتضحت أهمية هذا الخط والعمل على توسيعه.
تداعيات محتملة
تطرق حجازي إلى وجود تداعيات نتيجة تهديد الملاحة في البحر الأحمر من بينها عودة عمليات القرصنة البحرية، لكن هذا الأمر لن يكون ذا خطورة كبيرة مقارنة بما يجري، فمثلاً تم الاعتداء على سفينة ترفع علم مالطا عقب عمليات الحوثيين ولم تكن خطرة فالبحرية الهندية تحركت وأنقذت السفينة بسهولة دون أي خسائر، فقد تمت مواجهة هذا الأمر طوال عقدين، كذلك كان يتم احتجاز السفينة لأيام ثم إطلاق سراحها، وهذا الأمر ليس فيه خطورة مقارنة بالخطورة التي خلقتها جماعة الحوثي.
كما استغلت إثيوبيا الاضطرابات في المنطقة ولجأت لتوقيع مذكرة تفاهم بحرية في يناير 2024 مع إقليم “صومالي لاند” للحصول على ميناء بربرة على البحر الأحمر، وهذا خرق لسيادة الصومال لأنها تريد دعم انفصال هذا الإقليم عن الصومال والسيطرة عليه، وهذا سيهدد دول المنطقة والبحر الأحمر وليس فقط الصومال، لأن إثيوبيا بوصولها إلى البحر الأحمر ستمثل تهديداً قوياً لدول المنطقة، رغم أن هذا الأمر لن يكون مؤثراً في الوقت الحالي، فإثيوبيا ليست لديها قوات بحرية أو إمكانيات تؤهلها للسيطرة على بربرة، لكن تمت مواجهة هذا التحرك بقوة والسعي لإجهاضه خاصة من قبل مصر.