تتجه روسيا نحو تشكيل ما يسمى بـ”الفيلق الأفريقي”، على نحو يوحي بأنها تحاول توسيع نطاق حضورها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي إلى جانب ليبيا، وخاصة بعد تقليص فرنسا وجودها العسكري في تلك المنطقة. ففي هذا السياق، أعلنت “مجموعة آر سي بي” الخاصة- التي تقوم بتدريب قوات الأمن في بوركينافاسو- في 25 ديسمبر الفائت، عن تشكيل هذا الفيلق الذي سينتشر، وفقاً لصحيفة “فيدوموستي” الروسية، في كل من بوركينافاسو وليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى والنيجر.
دلالات عديدة
يطرح سعى روسيا إلى تشكيل الفيلق العسكري الجديد دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- إنهاء مهمة “فاجنر“ في أفريقيا: تشير تقارير عديدة إلى أن الهدف من تشكيل هذا الفيلق العسكري هو دمج مجموعة “فاجنر” والسيطرة على قيادتها وعملياتها، وخاصة بعد تمرد قائدها السابق، يفجيني بريجوجين، الذي لقى حتفه في حادث تحطم طائرة في 23 أغسطس الماضي. وقد رجحت هذه التقارير أن الجنرال يونس بك يفكوروف نائب وزير الدفاع الروسي، هو الذي سيتولى الإشراف على عمليات هذا الفيلق الجديد، حيث تكررت زياراته خلال الفترات الماضية إلى مدينة بنغازي، وكان تشكيل هذه الوحدات ضمن مباحثاته مع القادة العسكريين في شرق ليبيا.
2- تعزيز الحضور العسكري في القارة: تسعى موسكو إلى تعزيز حضورها العسكري في أفريقيا، وخاصة في ليبيا، حيث يقتصر الوجود العسكري الروسي على الخبراء والمقاتلين ضمن مجموعة “فاجنر”، وهو وجود محدود مقارنة بالوجود الغربي وحتى الشرق أوسطي. فعلى سبيل المثال، تحافظ الولايات المتحدة على وجود عسكري في مناطق ودول أفريقية عديدة. وقد كشفت تقارير روسية أن موسكو وضعت خطة لنشر حوالي 45 ألف جندي في خمس دول أفريقية هي: ليبيا وبوركينافاسو ومالي وأفريقيا الوسطى والنيجر.
3- تقديم الدعم العسكري للقوى الحليفة: تؤسس موسكو علاقات قوية مع بعض الأطراف المنخرطة في العديد من الدول، لا سيما في النيجر ومالي وليبيا وبوركينافاسو، حيث كان لافتاً أنها دعمت الانقلابات العسكرية التي وقعت في النيجر ومالي وبوركينافاسو، وتستعين الدولتان الأخيرتان بمجموعة “فاجنر” في تعزيز قدراتهما على مواجهة القوى المناوئة لهما، على نحو يبدو جلياً في مالي تحديداً، حيث تنخرط “فاجنر” في القتال إلى جانب القوات الحكومية ضد الجماعات المسلحة في الشمال.
4- ملء الفراغ الفرنسي في الساحل: يتضح من خطة نشر قوات الفيلق الأفريقي في خمس دول منها ثلاث في منطقة الساحل (النيجر ومالي وبوركينافاسو)، أن موسكو تسعى إلى توسيع نطاق وجودها العسكري في الساحل لتحل محل فرنسا، وخاصة بعد إعلان الأخيرة سحب قواتها من الدول الثلاث، حيث لم يتبقَّ لها سوى قاعدتها العسكرية في تشاد، ومن ثم يبدو أن موسكو تستغل الفرصة وتستثمر في هذه الأوضاع وتخطط لوجود دائم في هذه الدول.
5- توسيع عمليات تجنيد الأفارقة: لا يمكن فصل هذا التوجه الروسي الجديد عن التداعيات التي فرضها استمرار الحرب في أوكرانيا، حيث يعاني الجيش الروسي من نقص في حجم القوات البرية، وقد كشفت تقارير دولية عديدة عن إعلانات لتجنيد أجانب من بعض الدول في صفوف الجيش الروسي، لدرجة أن مجموعة “فاجنر” التي انخرطت في العمليات القتالية في أوكرانيا اتجهت أيضاً إلى تجنيد النساء والسجناء في صفوفها. ومن ثم، يبدو من إطلاق تسمية “الفيلق الأفريقي” على هذا التشكيل العسكري الجديد أنه سيعمل على تجنيد الأفارقة في صفوف الجيش، كما تعكس هذه التسمية المجال الجغرافي الذي سوف يعمل في نطاقه هذا التشكيل الروسي الجديد.
تداعيات محتملة
من المتوقع أن يفرض تشكيل الفيلق العسكري الروسي تداعيات عديدة، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تصاعد التنافس الأمريكي–الروسي: ربما يدفع تشكيل هذا الفيلق الأفريقي ونشره في الدول الخمس الولايات المتحدة إلى إجراء تغيير في سياستها، خاصة أنها تخشى من تراجع نفوذها في هذه الدول، وليس من المستبعد أن تتجه إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى الأخيرة من أجل موازنة الوجود العسكري المتنامي لروسيا فيها.
والجدير بالذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة كانت قد أعلنت عن استراتيجية عسكرية جديدة لبناء قواعد عسكرية للطائرات المسيرة في غرب أفريقيا إلى جانب قاعدة المسيرات في النيجر، ولذلك قد تتجه واشنطن نحو توسيع هذه القواعد لتشمل دولاً جديدة في محاولة منها لتطويق النفوذ الروسي في ليبيا وغرب أفريقيا.
2- زيادة التحركات العسكرية التركية في ليبيا: فقد وافق البرلمان التركي، في أول ديسمبر الفائت، على التمديد لمهمة هذه القوات في ليبيا، حيث تعمل الحكومة التركية على دعم الموقف السياسي للسلطات والحكومة في غرب ليبيا، بينما تحرص موسكو على دعم السلطات في الشرق، لذلك قد يحفز الوجود العسكري الروسي المتنامي في شرق ليبيا التحركات التركية لموازنة هذا الوجود الروسي، وذلك في إطار التنافس بين الجانبين على تعزيز النفوذ في ليبيا.
3- انخراط الفيلق الأفريقي في مكافحة الإرهاب: تتعرض المصالح الروسية في بعض الدول الأفريقية لتهديدات متزايدة من جانب التنظيمات الإرهابية. فعلى سبيل المثال، وجه زعيم جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، إياد أغ غالي، في 15 ديسمبر الفائت، تهديدات مباشرة لروسيا بهزيمتها في منطقة الساحل، وذلك رداً على توسع عمليات “فاجنر” ضد الجماعات المسلحة في شمال مالي، لذلك يبدو أن موسكو ستكون مضطرة لمواجهة هذا التحدي وخوض المعركة مع الإرهاب، سواء كان ذلك من خلال المواجهة المباشرة أو عبر تقديم دعم للجيوش الأفريقية.
ختاماً، يمكن القول إن تشكيل هذا الفيلق العسكري الروسي يعكس اهتماماً واضحاً من جانب موسكو بتوسيع نطاق وجودها العسكري في القارة الأفريقية، ورغم الفرص السياسية التي تحاول موسكو اغتنامها، لا سيما بعد خروج القوات الفرنسية من المنطقة، لكن سيتعين عليها أن تواجه الضغوط الاقتصادية الداخلية، وأن تأخذ في حساباتها احتمالات تطور الحرب الروسية-الأوكرانية التي تفرض ضغوطاً على أدوارها الخارجية ونفقاتها العسكرية، ومن ثم من المحتمل أن تحافظ موسكو على وجود عسكري محدود في الدول الخمس المذكورة، لكن سيناريو توسع عمليات هذا الفيلق ليشمل دولاً جديدة سيظل رهناً بقدرة موسكو على مواجهة التحديات المذكورة وتحمل فاتورة نفقاتها العسكرية في أفريقيا.