إسرائيل فى اليوم التالى – الحائط العربي
إسرائيل فى اليوم التالى

إسرائيل فى اليوم التالى



انشغل قادة الأحزاب اليمينية العنصرية المتطرفة فى إسرائيل بالتخطيط لليوم التالى فى غزة، وتناسوا تماما عن قصد، او عن غير قصد اثارة السؤال عن اليوم التالى فى إسرائيل. والحديث عن اليوم التالى مستعار من الفيلم الأمريكى The Day After، الذى عرض لأول مرة فى 1983، والذى يتناول حالة أمريكا والعالم فى اليوم الذى يأتى بعد استخدام الأسلحة النووية بين أمريكا وأعدائها. وفى وقت عرض هذا الفيلم كنت طالبا فى السنة النهائية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وقد اصطحب دفعة العلوم السياسية استاذنا الدكتور عبد المنعم المشاط الى المركز الثقافى الأمريكى المجاور للسفارة الامريكية فى القاهرة، وعرضوا لنا الفيلم عرضا خاصاً قبل أن يتم التصريح بخروجه للعرض خارج الولايات المتحدة.

الحديث عن اليوم التالى فى غزة من قبل القيادة الإسرائيلية يفترض ان تلك القيادة حققت نصرا حاسما، واستطاعت القضاء على حماس بصورة تجعل من غزة منطقة فارغة من أى وجود مؤثر، أو ذى قيمة من السلطة الفلسطينية، أو من حماس، أو من باقى حركات التحرر الوطنى الفلسطينية. وهذا فى حد ذاته افتراض متخيل من قبل قيادة لم تحقق الحسم فى أى منطقة من مناطق غزة، التى تم تدميرها بقوة نيران تفوق الأسلحة النووية. ولكن لكل طرف فى أى معركة ان يفترض النصر الحاسم، ويتوقعه، ويعمل على تحقيقه، ويخطط لما يأتى بعده، ولذلك لن نناقش هذا الامر، وإنما سوف نركز على اليوم التالى فى إسرائيل ذاتها. ذلك اليوم الذى لم يتكلم عنه أحد داخل إسرائيل، او خارجها بصورة جادة وعميقة. أولا: إن اهم مقومات المجتمع الإسرائيلى الشعور العميق بالأمن؛ بكل معانيه، ذلك الشعور الذى افتقده الشعب اليهودى طوال تاريخيه فى أوروبا وأمريكا، حيث هناك دائما من يعتدى على بعض اليهود، أو يمارس التنمر، والتمييز، والسخرية والنقد، ولأول مرة يشعر المهاجرون من العالم الغربى الذين يشكلون النخب الاقتصادية والسياسية والثقافية فى إسرائيل بالأمن فى إسرائيل، هذا الشعور تغذيه الدولة بكل مؤسساتها الأمنية، والاستخبارية بصورة تزيل كل رواسب الماضى المؤلمة من عقول ونفوس شعبها. هذا الشعور تمت زلزلته بصورة جذرية فى 7 أكتوبر الماضي، ولم يعد المواطن البسيط فى إسرائيل يصدق فكرة الامن المطلق التى عاش يحلم بها. وهنا يكون السؤال ماذا ستفعل الدولة لإعادة ترسيخ مفهوم الأمن فى نفوس شعبها بعد أن دمرت غزة تدميرا كاملا وقتلت عشرات الآلاف؟

ثانيا: تم تسويق فكرة المستوطنات فى غلاف غزة وفى الضفة الغربية ـ وهى مستوطنات ومستعمرات، كيبوتز، مسلحة ـ على اعتبار أنها من أهم وسائل تحقيق الامن الوطنى الإسرائيلي؛ من خلال محاصرة المجتمعات الفلسطينية فى الضفة الغربية، وفى قطاع غزة بالمستوطنات؛ سواء فى غلاف غزة الذى تم اقتطاعه من مساحة غزة التى قررتها الأمم المتحدة، وكذلك فى الضفة الغربية تمت محاصرة المدن والقرى فيها بالمستوطنات؛ لتحويل حياة الفلسطينيين الى جحيم لا يطاق؛ فلا يفكرون فى أى نوع من المقاومة او المواجهة مع إسرائيل، ويكون أقصى طموحاتهم العبور الى مزارعهم، أو الى القرى والمدن المجاورة. مفهوم المستوطنات والمستعمرات ذاته تحول الى مصدر لتهديد الامن، وليس وسيلة لحماية الأمن. فهل ستعيد القيادة الإسرائيلية التفكير فى جدوى المستوطنات من الناحية الأمنية بعيدا عن فكرة سرقة الأرض، والتمدد الجغرافى للقضاء على الحلم الفلسطينى فى دولة مستقلة؟.

ثالثاً: إن كل أطروحات اليمين المتطرف والعنصرى فى رفض حل الدولتين، وفى إمكانية الاستيلاء على الضفة والقطاع بعد إجبار السكان على الهجرة؛ من خلال الممارسات العنصرية المتمثلة فى الاقتحامات المستمرة للمدن والقرى، وعنف المستوطنين، والحواجز، وجدار الفصل العنصري، والاعتقالات غير القانونية التى يطلق عليها الفاظا تجميلية فيسمونها الاعتقالات الإدارية. كل تلك السياسات التى مارسها اليمين المتطرف منذ أن تولى رئيس الوزراء الحالى بنيامين نيتانياهو رئاسة الوزراء لأول مرة فى عام 1996 قد ثبت فشلها، ولم تحقق الامن، ولم تؤد الى التطهير العرقي، وتهجير الفلسطينيين بل أدت الى ظهور أجيال اكثر عنفا، وأقل رغبة فى التعايش مع الدولة الإسرائيلية، ولذلك كان 7 أكتوبر نتيجة طبيعية لسياسات عنصرية عانت منها أجيال متتالية. فهل ستنجح الديمقراطية الإسرائيلية فى أن تأتى بنخبة سياسية راغبة فى تحقيق السلام والتعايش مع الجيران فى اليوم التالى لنهاية الحرب فى غزة؟.

رابعاً: ماهى الرسالة التى سوف يوجهها قادة إسرائيل للجيران العرب فى اليوم التالى لنهاية الحرب فى غزة؟ وهل سوف يعاودون تسويق إسرائيل كدولة ترغب فى العيش فى سلام، وتحترم القانون الدولي، وتراعى الاتفاقيات والمعاهدات، وتحترم المؤسسات الدولية، ويمكن الوثوق بها عند التعاقد معها فى معاهدات سلام؟ هل سوف يقولون ان إسرائيل تحترم سيادة الدول الأخرى، وتراعى حرمة أراضيها؟ هل سيقولون ان إسرائيل حريصة على أن تكون دولة تنتمى للقرن الحادى والعشرين، وتؤمن برسالة سماوية؟ أظن أن هذا الخطاب سوف يحتاج الى أدلة تزيل من عقول الجماهير فى الدول المجاورة، وفى مختلف انحاء العالم الممارسات التى تنتمى لعصور التوحش فى القرون الوسطى فى أوروبا، أو لشريعة الغاب فى المجتمعات البدائية. التحدى الذى يواجه إسرائيل فى اليوم التالى بعد ان تظهر صورة غزة بكامل حقيقتها سيحتاج الى معجزة تعيد لإسرائيل وجهها الإنسانى الذى حاولت تسويقه فى الفترة الماضية.

نقلا عن الأهرام