في خضمّ سلسلة الاضطرابات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي شهدها عددٌ من بلدان القارة الأفريقية مؤخراً، فقد وَضَعَ الاتحاد الأوروبي عينه على موريتانيا، وذلك من خلال تكثيف أوجه الاتصال بين المسؤولين الأوروبيين والموريتانيين ومؤسساتهم أيضاً، والتأكيد في مباحثاتهم كافة على أهمية تعزيز أوجه التعاون المشترك بين أوروبا وموريتانيا، فضلاً عن توقيع اتفاقيات بشأن ذلك وتقديم دعم مالي أيضاً، وهو الأمر الذي يحمل مجموعة من الأسباب، أبرزها: رغبة أوروبية في حل أزمة الهجرة غير الشرعية، وتعزيز أوجه الاستفادة الأوروبية من الثروات الموريتانية، وإعادة التموضع الأوروبي بمنطقة الساحل الأفريقي، والبحث عن بديل أفريقي للغاز الروسي، ومواجهة التمدد الروسي والصيني في نواكشوط، بجانب مساعي “الغزواني” لإبراز مكانة موريتانيا على الخريطة الدولية.
إنّ عملية الشراكة الكاملة واستئناف علاقات التعاون بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي وقع مطلع يناير 2009 في عهد الرئيس الموريتاني السابق “محمد ولد عبدالعزيز”، ومن وقتها وعلاقات التعاون بين الطرفين تشهد نمواً ولكن ليس كما يحدث في الوقت الراهن، إذ فرضت التطورات الإقليمية والدولية، كالتوترات التي شهدها عدد من دول الساحل الأفريقي والحرب الروسية-الأوكرانية على الاتحاد الأوروبي ونواكشوط تعزيز أوجه التعاون، الأمر الذي دفع بمجلس الوزراء الموريتاني للتصديق على مشروع قانون في يونيو 2022، يسمح بالمصادقة على “معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون بين الحكومة الموريتانية ونظيرتها الإسبانية والاتحاد الأوروبي”، الموقعة في العاصمة الإسبانية مدريد في 24 يوليو 2008، وتنص على التعاون بمجالات التعليم ومكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان والمجالات القانونية والأمن الغذائي وغيرها.
تواصل مشترك
في ضوء ما تقدم، يمكن الإشارة إلى أبرز التحركات بين الجانبين الأوروبي والموريتاني التي شهدتها الفترة الأخيرة، وذلك على النحو التالي:
1- زيارة وفد برلماني أوروبي إلى العاصمة نواكشوط: وقعت هذه الزيارة في 20 ديسمبر 2023، وعقد خلالها رئيس بعثة العلاقات مع الدول المغاربية في البرلمان الأوروبي “ماتياز نيميك” مباحثات مع عدد من المسؤولين، أبرزهم رئيس الوزراء الموريتاني “محمد ولد بلال مسعود”، وبحث الطرفان سبل تعزيز وتطوير أوجه التعاون متعدد المجالات بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي، والقضايا ذات الاهتمام المشترك، وأكد “نيميك” خلال هذا اللقاء أن موريتانيا بالنسبة للاتحاد الأوروبي تعد “بلداً مليئاً بالفرص”، مشيراً إلى أن الاتحاد يتابع جميع الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة الموريتانية بمختلف المجالات، ويحرص دوماً على تعزيز التعاون بالمجال الاقتصادي والأمني والهجرة مع موريتانيا لمواجهة أية تحديات مشتركة، واستغلال أية فرص لازدهار وتنمية علاقات الجانبين.
2- اجتماع البرلمانَيْن الموريتاني والأوروبي بشأن أزمة غزة: وقع هذا الاجتماع الثاني عشر في 22 ديسمبر 2023، بالعاصمة نواكشوط، وركز خلالها البرلمانان الموريتاني والأوروبي على الأحداث الجارية في قطاع غزة، وخاصة الأزمة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في القطاع. ودعا البرلمانان في بيانهما المشترك لضرورة إدخال المساعدات الإنسانية بشكل دائم وآمن ومستمر، بل أعلن البرلمانان عن استعدادهما للمساهمة في إعادة إطلاق عملية سياسية تنص على التعايش بين دولتين فلسطينية وإسرائيلية. ومن جهته، طلب البرلمان الموريتاني من نظيره الأوروبي ضرورة التدخل العاجل من أجل وقف إطلاق النار بقطاع غزة.
3- اتفاق بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي لتدشين خلية إقليمية: وقع وزير الخارجية الموريتاني “محمد سالم ولد مرزوك” ورئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في نواكشوط “غويليم جونز” في 15 ديسمبر 2023، على اتفاق ينص على إقامة وتسيير خلية إقليمية للاتحاد الأوروبي مكلفة “بالإرشاد والتنسيق لصالح مجموعة دول الساحل”، وذلك بعد انسحاب ثلاث دول (بوركينافاسو، النيجر، مالي) من مجموعة الساحل G5 التي تشكلت عام 2014 بالعاصمة نواكشوط بهدف مكافحة الإرهاب، وكانت تضم بجانب الدول الثلاث تشاد وموريتانيا، ويأتي التوقيع على هذا الاتفاق بعد إعلان كل من العضوين المتبقيين عن المضي قدماً وفقاً للبند 20 من الاتفاقية المؤسسة للمجموعة على حلها.
4- إبرام اتفاق لتجديد الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وموريتانيا: في 10 أكتوبر 2023، استقبل الرئيس الموريتاني “محمد ولد الشيخ الغزواني” نائب رئيس المفوضية الأوروبية “مارجريتيس شيناس” ووزير الداخلية الإسباني “فرناندو غراندي مارلاسكا”، وبحث “الغزواني” مع المسؤولين الأوروبيين أوجه التعاون بين بلاده وإسبانيا من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى وتجديد الشراكة بين موريتانيا والاتحاد وسبل تعزيز وتطوير العلاقات بينهم خدمة للمصالح المشتركة، وهذا ما أكده “شيناس” قائلاً: “هذه الزيارة هدفها تجديد الشراكة مع موريتانيا بوصفها شريكاً مهماً للاتحاد الذي استثمر بالبلد الأفريقي خلال الفترة الأخيرة ما يقدر بـ600 مليون يورو”، ولذلك وقع نائب رئيس المفوضية الأوروبية خلالها مع وزير العدل الموريتاني “محمد محمود بن عبدالله بن بيه”، على اتفاق يقدم بموجبه الاتحاد 10.5 ملايين يورو دعماً لنواكشوط، وتعزيز التعاون بمجالات النقل البري والبحري والتعاون الأمني وفي مجال الهجرة.
إضافة إلى أنه في 25 أكتوبر 2023، أعلنت الرئاسة الموريتانية -في بيان لها- عن توقيع نواكشوط مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل، على خطة عمل لعام 2024 تُقدر بـ37 مليون يورو (39 مليون دولار)، في إطار جهود الاتحاد لدعم سياسات موريتانيا التنموية.
أهداف أوروبية
في إطار التحركات سالفة الذكر، يمكن القول إن تزايد الاهتمام الأوروبي بموريتانيا في الفترة الأخيرة، يرجع إلى مساعي الاتحاد الأوروبي لتحقيق جملةٍ من الأهداف، يُمكن إبرازها على النحو التالي:
1- رغبة أوروبية في حل أزمة الهجرة غير الشرعية: تحرص بلدان الاتحاد الأوروبي دوماً على دعم البلد الذي يخلصها من أزمة الهجرة غير الشرعية والتي تفاقمت خلال الفترة الأخيرة، وبعد أن رفض الرئيس التونسي “قيس سعيد” عروضاً أوروبية لاستضافة المهاجرين على الأراضي التونسية ومنع تدفقهم إلى أوروبا، فقد وقع الاختيار على موريتانيا، وهو من أبرز دوافع الدعم الأوروبي المالي والتحركات الأوروبية المتزايدة نحو البلد الواقع بشمال غرب أفريقيا، ولقرب موريتانيا من جزر الكناري الإسبانية من جانب المحيط الأطلسي، ولذلك تحرص إسبانيا على توطيد علاقاتها مع الدولة الأفريقية لمنع تدفق الهجرة غير الشرعية إلى بلادها وأيضاً مكافحة خطر تمدد الجماعات الإرهابية.
وعليه، فإن موريتانيا لم تعارض استضافتها للاجئين والمهاجرين غير الشرعيين المتدفقين على المناطق الشرقية لحدودها ولكن بشرط وجود الدعم اللازم الذي يمكنها من مواجهة تداعيات أزمة اللاجئين، وهو ما ناقشه الأمين العام لوزارة الداخلية الموريتانية “محمد محفوظ ولد إبراهيم” منتصف ديسمبر الجاري مع المدير العام المساعد للحماية المدنية بالاتحاد “ميخائيل كوهلير” على هامش المنتدى العالمي للاجئين، حيث بحث الطرفان فرص التعاون المتاحة بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي في مجال العمل الإنساني الموجه للاجئين، وذلك لمواجهة الضغط الكبير على الموارد الطبيعية والمالية، وعلى فرص العمل والخدمات والمرافق العمومية بموريتانيا.
2- إعادة التموضع الأوروبي في منطقة الساحل الأفريقي: إن تزايد التحركات الأوروبية نحو موريتانيا يأتي في ظل توتر العلاقة بين عدد من دول الساحل الأفريقي والدول الغربية، خاصة بعد انسحاب القوات الفرنسية من مالي واستعدادها للخروج من النيجر التي شهدت انقلاباً مؤخراً، وبهدف تعزيز النفوذ الأوروبي بدول الساحل، وتم الإعلان مؤخراً عن تأسيس خلية التنسيق الأوروبية الموريتانية لصالح G5، للتعويض عن هذه المجموعة التي تفككت بعد انسحاب مالي وبوركينافاسو والنيجر منها، وهو السبب في إعلان مساعد مدير الحماية المدنية وعمليات المساعدة الإنسانية في الاتحاد الأوروبي “ميخائيل كوهلير”، عن توجه الاتحاد لفتح مكتب مختص في نواكشوط لتعزيز الدعم الأوروبي لموريتانيا.
3- توفير بديل أفريقي مناسب للغاز الروسي: منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وفرض عقوبات أوروبية على موسكو، والدول الأوروبية تبحث عن بديل لتقليل اعتمادها على الشحنات الروسية من الغاز، ولذلك فإن موريتانيا قد تصبح مصدراً رئيسياً لتوريد الغاز، خاصة أنها ثالث أكبر الدول الأفريقية التي تمتلك احتياطات ضخمة من الغاز المسال تقدر بنحو 110 تريليونات قدم مكعب، ولذلك اكتسبت نواكشوط “أهمية استراتيجية جديدة” لدى الاتحاد الأوروبي كي تصبح مصدراً للغاز إلى أوروبا، وهو ما يفسر سبب عودة الحديث عن مشروع “أنبوب الغاز النيجيري المغربي” الذي جرى الإعلان عنه نهاية عام 2016 إلى الواجهة مرة أخرى، حيث كشفت وسائل إعلام أفريقية في 19 ديسمبر الجاري أن الاتحاد الأوروبي يأمل في انطلاق أشغال هذا المشروع في أقرب وقت ممكن، باعتباره أحد أبرز البدائل للغاز الروسي، حيث يبلغ طوله 6000 كم وسيمتد عبر 13 دولة أفريقية (نيجيريا، بنين، توغو، غانا، ساحل العاج، ليبيريا، سيراليون، غينيا، غينيا بيساو، غامبيا، السنغال، موريتانيا، المملكة المغربية) وصولاً إلى إسبانيا ثم إلى بقية أوروبا.
4- مواجهة التمدد الروسي والصيني في موريتانيا: تسعى دول الاتحاد الأوروبي من خلال تعزيز أوجه التعاون بجميع المجالات مع موريتانيا إلى وضع حد للتمدد الروسي والصيني الذي تزايد وتطور مؤخراً بالبلد الأفريقي. فمن جهة، شهدت العلاقات بين موسكو ونواكشوط تطوراً ملحوظاً خلال الفترة الأخيرة، توجت بزيارات من كلا الجانبين نجم عنها اتفاقيات مشتركة خاصة لتعزيز التعاون بالمجالين التجاري والعسكري، جاء من أبرزها زيارة رئيس موريتانيا السابق “محمد ولد عبد العزيز” إلى روسيا في 2019، وتوقيع وزير الدفاع الموريتاني “حنن ولد سيدي” مع نائب وزير الدفاع الروسي “ألكسندر فومين” خلال زيارته لموسكو في يوليو 2022، اتفاقاً لتعزيز التعاون العسكري بين البلدين، وأخيراً زيارة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” لنواكشوط في فبراير 2023، لتطوير أوجه التعاون المشترك.
وعلى صعيد الصين، لا تزال العلاقات بين بكين ونواكشوط الممتدة منذ ستينيات القرن الماضي تشهد نمواً ملحوظاً، خاصة بمجالات النفط والغاز والتعدين والاستثمار، عكسته الزيارة الأخيرة للرئيس الموريتاني “الغزواني” إلى الصين أواخر يوليو 2023، ومباحثاته مع الرئيس الصيني “شي جين بينج” في 28 يوليو 2023، التي نجم عنها توقيع الطرفين على خطة بشأن دفع التعاون المشترك في إطار “مبادرة الحزام والطريق”.
5- تعزيز أوجه الاستفادة الأوروبية من الثروات الموريتانية: تمتلك نواكشوط ثروة سمكية ضخمة تقدر بحوالي (مليوني طن) وتمتد على أكثر من 700 كم من المحيط الأطلسي، كما لديها احتياطات هائلة من النحاس والذهب والحديد بجانب النفط، ونظراً لأن مصايد الأسماك تعادل وحدها ربع الثورة الطبيعية في الدولة الأفريقية، فإن الاتحاد الأوروبي وضع عينه عليها، وهو السبب في تركيزه على تعزيز التعاون بمجال الصيد السمكي مع موريتانيا، إذ كانت آخر مباحثات بهذا الشأن في 6 ديسمبر 2023، في اجتماع للجنة الموريتانية الأوروبية المشتركة للصيد البحري، في العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث بحثت اللجنة متابعة بروتوكول اتفاق الصيد بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي الذي يمتد على مدى خمس سنوات، ويسمح للأوروبيين بصيد 287 ألف طن كحد أقصى مقابل حصول موريتانيا على مبلغ مالي قدره 60 مليون يورو سنوياً.
6- مساعي “الغزواني” لإبراز مكانة موريتانيا على الخريطة الدولية: بجانب الأهداف التي يسعى الاتحاد الأوروبي لتحقيقها من جراء تعزيز التعاون مع موريتانيا، فإن الرئيس “الغزواني” يسعى هو الآخر للاستفادة من هذا التعاون لإبراز أهمية بلاده على الخريطة الدولية، والتأكيد على أنها شريك استراتيجي هام وموثوق بها لمختلف البلدان على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويمكن من خلال التعاون معها مواجهة عدد من التحديات التي تواجه هذه البلدان، خاصة المتعلقة بمكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، وهي المشاكل التي تؤرق عدداً من بلدان القارة الأوروبية وذلك في مقابل تعزيز الاستثمارات الأوروبية داخل موريتانيا للنهوض بأوضاعها الاقتصادية والتنموية والاستغلال الأمثل لمواردها المتنوعة.
تحرك متزايد
خلاصة القول، إنّ تحركات الاتحاد الأوروبي نحو موريتانيا لن تتوقف، بل على العكس ستشهد الفترة المقبلة تصاعداً في العلاقات الأوروبية الموريتانية على الأصعدة كافة، خاصة فيما يتعلق بالمجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، وذلك في محاولة أوروبية للحفاظ على الأمن والاستقرار في موريتانيا، وتفادي وصول ظاهرة الانقلابات التي شهدتها بعض دول القارة مؤخراً بهذا البلد، ومن أجل النهوض بأوضاعها الاقتصادية كي تمكنها من استضافة أكبر عدد ممكن من اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين لرفع هذا العبء عن أوروبا، وهو ما تحاول موريتانيا استغلالها على الصعيدين الداخلي والخارجي.