اكتملت مع نهاية العام الماضي ملامح متفجرة لعام جديد، في فلسطين الحرب قائمة ومستمرة، وفي محيطها يرتفع منسوب التوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وإيران من جهة ثانية، في مناخ غربي دولي ينظر إلى طهران كراع عالمي للإرهاب يواصل خرقه لموجبات الاتفاق النووي الموقع في 2015.
عشية نهاية العام وبعد عمليات تفتيش قامت بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية (الـ19 والـ24 من ديسمبر / كانون الأول) قالت الوكالة في تقرير إن إيران زادت منذ نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) إنتاج سادس فلوريد اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة بموقعي نطنز وفوردو.
في اليوم التالي قتل القائد في الحرس الثوري الجنرال رضا موسوي في غارة إسرائيلية على دمشق، ونظمت له جنازة مماثلة لجنازة قاسم سليماني، من دمشق إلى إيران، ليخرج الحرس الثوري متوعداً بالانتقام، لكن إسرائيل لم تتوقف، في الساعات التالية قصفت تل أبيب مواقع إيرانية أخرى في سوريا وقضت على مسؤولين آخرين في صفوف “المستشارين” الإيرانيين.
بلغ عدد غارات إسرائيل في سوريا خلال السنة الماضية 74 هجوماً، بينها نحو 48 هجوماً جوياً و24 إغارة برية بحسب إحصاءات “المرصد السوري” أسفرت عن إصابة 142 هدفاً بين مستودع ومقر، وعن مقتل 120 شخصاً وإصابة 134.
تهديدات إيران بالرد تصاعدت دوماً من دون أن تتحول إلى أعمال تنفيذية، على رغم أن الحرب الإسرائيلية على غزة أتاحت لها فرصة أيديولوجية لا مثيل لها لوضع شعاراتها ضد إسرائيل موضع التنفيذ. لم يحصل شيء من ذلك وبقي الإيرانيون ينتظرون الزمان والمكان المناسبين، فيما تولى الوكلاء في أنحاء المنطقة عمليات محدودة تبنتها طهران مع إنكار أن يكون لها دور تقريري فيها.
حاولت القيادة الإيرانية أن تقول للعالم إنها هي التي تقف وراء “المقاومة في فلسطين”، وجعلت “طوفان الأقصى” انتقاماً لسليماني مع أنها أنكرت في البداية علاقتها به تحت الضغط الأميركي، ثم حاولت عبر تشغيل “محور المقاومة” القول إنها تدير المواجهة، وسرعان ما كانت تستدير لتعلن أن عناصر المحور هم من يقررون سلوكه الميداني.
كل ذلك جعل من إيران متهماً بالنفاق في مقاومة إسرائيل، وبالحرص على أمر وحيد توظف من أجله الوكلاء، هذا الأمر هو استكمال المشروع النووي وصيانة مصلحة النظام، والاحتفال بالوكلاء الأساسيين لمهمة الدفاع عن طهران نفسها لا لخوض معارك غزة، وفي سبيل ذلك لا بأس في خراب العراق وتدمير سوريا ولبنان، وجعل اليمن صومالاً أخرى في قرصنة البحار.
سياسة من هذا القبيل يصعب أن تعيش طويلاً، لقد انكشفت مع التزام إيران قواعد الانضباط الأميركية، لكنها تستمر في اللعب على حبل “المقاومات الإسلامية” التابعة.
عشية العام الجديد رد مجلس الأمن القومي الأميركي مديناً التهديدات الإيرانية، انطلاقاً من تقرير وكالة الطاقة الذرية وتصريحات المسؤولين الإيرانيين الحربية، ولم يكن صدفة إعلان الرئيس الأميركي جوزف بايدن في الـ26 من ديسمبر أنه أمر بتوجيه ضربات انتقامية ضد الميليشيات الموالية لإيران في العراق.
تكررت تلك الضربات عشية نهاية العام، في تصعيد جديد لنمط التفاعل الأميركي مع تهديدات نظام الملالي التي تعتبر الولايات المتحدة أن ما يجري على الحدود اللبنانية وفي البحر الأحمر هو من أشكال تجليها.
ولم يكن مفاجئاً في هذا المناخ أن يعلن الجيش الإسرائيلي 2024 “عام حرب”، الأربعاء الماضي أبلغت قيادة الجيش حكومة بنيامين نتنياهو أن السنة المقبلة ستكون سنة معارك، مع كل ما تعنيه لجهة استدعاء قوات الاحتياط وتأثير ذلك في الاقتصاد والتعليم، وفي مصائر سكان مستوطنات غلاف غزة والحدود مع لبنان.
زادت وتيرة التصريحات الإسرائيلية حول استمرار الحرب في غزة، وتضاعفت التهديدات بمعركة حاسمة مع “حزب الله”. رئيس الأركان هيرتسي هاليفي أوضح أنه “لا توجد حلول سحرية واختصار في الطريق إلى تفكيك أساسي لمنظمة إرهابية، وإنما قتال عنيد وحازم سواء استغرق ذلك أسبوعاً أو أشهراً”.
وبحسب “يديعوت احرونوت” التي نقلت تقديرات الجيش للعام المقبل فإن استمرار حال الحرب لا يتعلق بمعركة غزة، إنما باحتمالات تطور القتال بين إسرائيل و”حزب الله” إلى حرب واسعة، متوقعة أن يدفع تصعيد الغارات والقصف الإسرائيلي سكان جنوب لبنان إلى النزوح شمالاً.
ورأت صحيفة “هآرتس” في السياق أن مقتل موسوي هو “أحد أهم التطورات في الحرب حتى الآن”، وهو “رسالة إسرائيلية بأن إيران لن تتمكن من التمتع بحصانة، فيما هي تبادر وتمول الإرهاب بواسطة أذرع، وهذا يقربنا أيضاً من إمكان تصعيد متزايد مقابل ’حزب الله‘ وحتى مقابل الإيرانيين في الجبهة الشمالية”.
بعد مصرع موسوي وتقرير الجيش خاطب يوآف غالانت وزير الدفاع إحدى لجان الكنيست قائلاً: “نحن نتعرض للهجوم من سبع ساحات مختلفة: غزة ولبنان وضربات الحوثيين ضد حركة الملاحة والشحن في البحر الأحمر، ويمكن أن تؤدي الأنباء عن زيادة إنتاج إيران لليورانيوم المخصب إلى توسيع نطاق الأزمة”.
كانت إيران قبل هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، أعلنت تطويراً كبيراً في برنامجها الصاروخي، ودائماً تحت عنوان القدس. ونشرت في يوليو (تموز) الماضي صوراً لنموذجي “الفتاح” و”خيبر”، وفي الخلفية مجسم لقبة الصخرة.
إيران فعلت ذلك في ظل حديث متنام ذلك الشهر (تموز الماضي) عن استعادة المحادثات بالواسطة مع أميركا حول الملف النووي، لكنها ولدى نشوب الحرب تجاهلت صواريخها المدرسة للقدس ودورها في قيادة “وحدة الساحات” ونأت بنفسها عن معركة التحرير المنتظرة.
وسيستمر هذا النأي معتمداً على مساهمات الوكلاء، وسيتيح ذلك مبررات إضافية لإسرائيل للمضي في حروبها في فلسطين وربما ضد لبنان، وستقترب المساهمة الإيرانية في الحرب ضد “الكيان الصهيوني” في هذه الحالة، لتكون مجرد تبرير لإسرائيل لتعميق عدوانها وتحقيق الأهداف بعيدة المدى التي تضعها لنفسها منذ ما قبل تأسيسها.
لقد كانت سياسة التهجير العنصري ولا تزال من ثوابت السياسة الإسرائيلية، وفي الظروف التي نشأت بعد “طوفان الأقصى” وما رافقه من مناوشات مع مختلف “الساحات الإيرانية”، زادت شهية إسرائيل المدعومة عالمياً إلى الحد الأقصى للمضي في هذه السياسة التي لن تردعها المزايدات ولا إبداء الفخر بتعداد عشرات ألوف الضحايا.
على الأرجح أن المنطقة سائرة باتجاه حروب أكبر، ضحاياها سيكونون في الأساس شعب فلسطيني يصاب بنكبة ثانية، وربما شعب لبناني يشهد دمار بلده مرة جديدة في مسلسل آن له أن يختتم نهائياً، إن منع الحرب ونتائجها المدمرة أصبح هدفاً أسمى للشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة كافة، وهذا يتطلب منهجاً آخر بدايته إنهاء منطقين يسودان ويتكاملان في الصراع ونتائجه: نهج العدوانية الإسرائيلية ونهج الانتهازية الإيرانية.
نقلا عن اندبندنت عربية