الدول الغربية تقول: «من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها»، ولكن كم من البشر يجب أن يُطحنوا في سبيل الكتابة عما يحدث في غزة اليوم، كالمشي حافياً على الجمر، حيث المشاعر متأججة، ومعظم القراء يرغبون في أن يقرأوا ويسمعوا ما يسرهم من «انتصارات»، وقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بهذه «الانتصارات» من جهة، و«الهزائم للعدو من جهة أخرى»، إلا أن ذلك هو تفكير في الينبغيات، وليس نظرة إلى الواقع على الأرض.
الحقائق على الأرض تحتاج إلى مصارحة، وقد تكون صادمة للبعض، نعم من حق الفلسطيني أن يدافع عن أرضه، ومن حقه المطلق أن يقاوم من احتل أرضه وطرده منها، ذلك أمر لا يجادل عاقل حوله، ولكن على الأرض هناك حقائق قاسية، من جهة هناك مآسٍ بشرية يشيب لها الولدان، هناك شعب يقتل بلا رحمة ودون إنذار تحت وابل من القنابل الحارقة، وهناك منازل تقذف بالقنابل فتهبط على رؤوس سكانها من أطفال وشيوخ، وهناك شح في المياه الصالحة للشرب تعرض الناس للموت عطشاً، وهناك فقد للدواء والغذاء، وهناك تشريد بشر لا يستطيع عاقل أن يبرره، إنه «هولوكوست» دون أفران الغاز، التي نرى تأثيرها أمامنا في وسائل الإعلام المرئية، إلى درجة تعلق الناس بشاحنات المساعدات الداخلة إلى القطاع، طلباً لبعض العون المفقود والمحاصر.
من جهة أخرى، هناك عزوف دولي عن التدخل الإيجابي لمنع تلك الكارثة المستمرة، حتى أصبح المقتول في غزة محظوظاً، إن قورن بما يلاقيه ويعانيه الأحياء من عذاب يومي على أرض غزة، بين فكي الجوع والعراء والبرد والقتل، وكل ما نسمع من القوى الكبرى أنه يُسمح لإسرائيل بعملية «جراحية»، ولكن مع استمرار الحرب!
7 أكتوبر (تشرين الأول) مبرر، ولكن لم يحسب مخططوه «ما يحمله اليوم التالي» أي «استراتيجية خروج»، فقد قتل حتى الآن 20 ألف إنسان من الفلسطينيين في غزة، وما زال الحبل على الجرار، كما دفن تحت الأنقاض عدد لا يعرف من البشر، في نفس الوقت آلة القتل الإسرائيلية تقتل أيضاً في الضفة الغربية دون هوادة.
القوى الدولية الكبرى تقول لك: «إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها»، ولكن كم من البشر يجب أن يطحنوا في سبيل ذلك «الدفاع».
التعاطف مع المقهورين والقتلى يعم العواصم العالمية ومنها الغربية، إلا أن الساسة ما زالوا يصرون على «إزاحة (حماس) من المشهد)، وفي المقابل فإنَّ الإهانة العميقة التي وجهت إلى إسرائيل في 7 أكتوبر كان لها ذلك الرد المدمر، والذي أخذ سقفاً عالياً جداً من العنف، إلى درجة زج الجيش الإسرائيلي في غزة، والذي تكبد حتى الآن نحو 300 عسكري قتيل. المأساة هي مقارنة 300 قتيل، بـ20 ألف شهيد فلسطينيي، هي مقابلة ترهق عقل أي عاقل! واضح من الصورة حتى الآن أن العمل على الساحة السياسية بطيء، وربما غير فعال، هناك إصرار من الجانب الإسرائيلي على شطب «حماس» من الصورة، وهناك إصرار من «حماس» على المقاومة حتى آخر مدني ومقاتل في غزة، إنها معادلة صفرية، يتفرج عليها العالم.
التعاطف العالمي مع الفلسطينيين ليس بسبب قناعة بحقهم في المقاومة، ذلك أمر يحتاج إلى إعادة تفكير، التعاطف هو بسبب حجم التدمير وعدد القتلى الذين سقطوا ويسقطون يومياً جراء هذه الحرب المدمرة، والواقع الموضوعي أن الغرب لن يترك إسرائيل «تهزم» لا بسبب حب للقيادة الإسرائيلية الحالية، ولكن يرى الساسة الغربيون، خصوصاً في العواصم المؤثرة مثل واشنطن ولندن وباريس، أن هزيمة إسرائيل تعني ببساطة، أردنا أو لم نرد، انتصار المشروع الإيراني في المنطقة، أرواح الفلسطينيين لا تعني كثيراً للجانبين المتصارعين استراتيجياً في منطقتنا وهما، إسرائيل والعواصم الغربية من جهة، وإيران من جهة أخرى!
أين المخرج إذن؟ وما الاستراتيجية التي تحقق للفلسطينيين نتائج إيجابية بعد ذلك الثمن الفادح؟
يبدو أن الأمر في طريق مسدودة كما هو قائم، إلا إذا فكرت قيادة «حماس» السياسية في «الخيار المتاح» وربما الصعب، وهو التفاوض على سحب القيادة العسكرية الحمساوية من غزة، وتسليم غزة لسلطة ما، وهي في الغالب السلطة الفلسطينية، في اتفاق شامل كامل لخطة طريق إلى الدولة الفلسطينية المرجوة على أراضي وحدود حرب 67، ولكن تلك الخطوة تحتاج إلى شجاعة أكبر وأهم من شجاعة 7 أكتوبر، لأنه لو حدث ذلك لجرى إنقاذ البشر في غزة، وخرج الفلسطينيون بنصر، يكتب لـ«حماس» في التاريخ، ولكن دون مقعد في الإدارة المقبلة.
الخيار الثاني هو طحن الفلسطينيين وتصحير غزة، وإجلاء سكانها أو إبادتهم، وما التشبث بمقولات غير واقعية إلا ضرب من الوهم، والحديث عن الانتصار غير المحتمل، ولا هو بالممكن في الساحة العسكرية، في ظل توازن القوى المحلية والإقليمية والدولية، حيث تزود إسرائيل بما تحتاج من سلاح، وينضب سلاح «حماس». إنها اللحظة المناسبة لإعلان خطة الخروج للعالم، من أجل اقتناص أفضل السبل لتحقيق الأهداف الكبرى.
كل معسكر «المقاومة» لم يستطع أن يقدم شيئاً ملموساً لغزة، غير الشعارات، وما نشاط الحوثي في باب المندب إلا جلب الكوارث على القضية. أما التأثير الإسرائيلي فما زال في قلب ماكينة القرار الغربية، وإصرار اليمين الإسرائيلي على «الانتصار» يعني تقوية هذا اليمين في الداخل الإسرائيلي، وضعف في مقاومة المعارضة من الداخل، والتي يمكن – إن حدث التفاوض – أن تنتج قيادة أقل يمينية وأكثر انفتاحاً على الحقوق الفلسطينية.
لذلك، فإن المفروض مع أزيز الرصاص يجري عمل سياسي غير مسبوق وغير متوقع وهو أساساً مطلوب من قيادة «حماس»، وقتها يتحقق النصر بنصرين، أما إذا استمر الوضع كما هو واتباع شعارات غير واقعية، فإن الخسارة المباشرة واللاحقة سوف تكون عظيمة، خسارة في الأرواح، وخسارة على الصعيد السياسي.
اعرف مسبقاً أن هذا النوع من السيناريوهات غير مفكر به، وأن من يقول به قد يخرجه البعض عن الصف، وقد يتعرض للنقد المرير، ولكن إن كان المطلوب شجاعة القرار السياسي الحمساوي، فلا بد أن يواكبه شجاعة في التفكير.
آخر الكلام:
السلاح إن لم تواكبه خطة سياسية يصبح عبئاً على أصحابه!
نقلا عن الشرق الأوسط