تُوِّجَت أعمال الدورة العاشرة لـ”الندوة رفيعة المستوى للأمن والسلم في أفريقيا”، التي استضافتها مدينة وهران الجزائرية، يومي 17 و18 ديسمبر الجاري، بتوصية تدعو إلى محاولة تثبيت مبدأ “الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية”، عبر التأكيد على ضرورة بلورة جيل جديد من عمليات حفظ السلام في القارة.
وتكمن أهمية هذه الدورة العاشرة للندوة- التي تُعرف أيضاً بـ”مسار وهران” نسبة إلى المدينة التي تستضيف أعمالها سنوياً- في أن الجزائر، وهي من بين مؤسسي هذا المسار ومن أهم داعميه، سوف تتسلم عضويتها في مجلس الأمن الدولي، مع بداية يناير 2024.
ولعل تصريح وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، عقب اختتام الندوة، الذي أكد فيه على أنها “كانت فرصة فريدة للوقوف على ما قطعناه من أشواط، خلال عقد من الزمان”، يوضح المسافة الزمنية لمسار وهران؛ وهو المسار الذي يؤشر إلى دوافع الجزائر لاستضافة المنتديات الأمنية عموماً، والندوة المتعلقة بمسار وهران بشكل خاص.
هذه الدوافع تستند إلى عددٍ من المخاطر والتحديات التي تواجهها الجزائر، نتيجة الاضطرابات التي تشهدها مناطق جوارها الجغرافي، سواء من جهة ليبيا والأزمة الممتدة فيها، أو من جهة منطقة الساحل الأفريقي وما تحتويه من أزمات تؤثر على الأمن الوطني الجزائري، نتيجة التشارك مع دول المنطقة في حدود طويلة، وغير ذلك من المخاطر والتحديات.
أسباب رئيسية
تتعدد العوامل الدافعة للجزائر في استضافة مجموعة من المنتديات الأمنية، ومن بينها مسار وهران الذي يختص ببحث “الأمن والسلم في أفريقيا”، ولعل أهم هذه العوامل ما يلي:
1- تداعيات الانقلابات في الساحل الأفريقي: أصبحت منطقة الساحل الأفريقي بؤرة للتوتر الأمني وعدم الاستقرار، خاصة في ظل ما شهدته من تعدد في الانقلابات العسكرية، من مالي إلى بوركينافاسو، وصولاً إلى النيجر. ومع تزايد التوتر الأمني على الحدود الجزائرية مع دول منطقة الساحل، تنامى الدور الجزائري في محاولة الانخراط في جهود تسوية الأزمات الناتجة عن تلك الانقلابات، على غرار ما حدث في مالي.
واللافت أنّ اهتمام الجزائر بدول جوارها الجغرافي الإقليمي يأتي كنتيجة طبيعية لارتباطها مع هذه الدول بحدود طويلة، مما يجعل من هذه الدول، خاصة مالي والنيجر، عمقاً استراتيجياً للجزائر، هذا فضلاً عن قرب هذه الحدود من مواقع نفطية استراتيجية في جنوب الجزائر، بما يجعل من تدهور الأوضاع الأمنية على الحدود تهديداً للأمن الوطني الجزائري.
2- مخاطر الهجرة غير الشرعية: يبدو أن إحدى المشكلات الناتجة عن عدم الاستقرار في منطقة الساحل هي تزايد موجات اللجوء والهجرة إلى الداخل الجزائري، خاصة منذ عام 2020؛ حيث شهدت المنطقة انقلابات في مالي وبوركينافاسو والنيجر، وهو ما أدى إلى تزايد موجات الهجرة إلى الجزائر بوتيرة كبيرة.
بل لعل المُثير في الأمر، أن وهران- المدينة الجزائرية الثانية بعد الجزائر العاصمة، والتي تستضيف الندوة الخاصة بالأمن والسلم في أفريقيا- قد تحولت في الآونة الأخيرة إلى مدينة عبور للمهاجرين، ووجهة مُفضلة لقوافل الهجرة غير الشرعية من دول الشرق الأوسط وأفريقيا، إضافةً إلى رعايا دول الساحل والصحراء، نحو السواحل الأوروبية؛ وهو ما يعني تحول الجزائر، ومدينة وهران بشكل خاص، إلى منطقة عبور أكثر سهولة نحو البحر المتوسط، وما يفرضه ذلك من تداعيات على الأمن الجزائري، اقتصادياً واجتماعياً.
3- تهديدات منظمات العنف والإرهاب: وهو ما يُشكل أحد أهم العوامل الدافعة للجزائر في الاهتمام بمسائل التعاون الأمني، على نحو يبدو بشكل لافت عبر تصريحات وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، التي أشار فيها إلى أن منطقة الساحل الصحراوي “أضحت عنواناً بارزاً لغياب الأمن والاستقرار، من شرقها إلى غربها، من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي”، مُحذراً في الوقت نفسه من “استفحال آفتي الإرهاب والجريمة المنظمة، وتفاقم بؤر التوترات والنزاعات”.
تصريحات عطاف هذه في الوقت الذي تدل على تغلغل جماعات العنف والإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد العمليات الإرهابية في أفريقيا، بحسب تقرير للأمم المتحدة نُشر في 16 مايو الماضي؛ تؤشر إلى مدى القلق الجزائري من التهديدات التي يمكن أن تفرضها هذه الجماعات عبر الحدود المشتركة مع منطقة الساحل.
4- الارتدادات الإقليمية للأزمة الليبية: احتل الملف الليبي صدارة أولويات السياسة الخارجية الجزائرية، خاصةً منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم. وتمثلت محصلة شبكة العلاقات الجزائرية بمختلف القوى الناشطة على الساحة الليبية، في محاولة بناء “توازن” يقوم في شقه السياسي على استمرار دعم حكومات طرابلس، سواء حكومة “الوفاق” السابقة التي ترأسها فائز السراج، أو حكومة “الوحدة” التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، وذلك نتيجة التقارب الجغرافي للغرب الليبي مع الجزائر.
كما يقوم، في شقه العسكري، على الامتناع عن تقديم الدعم العسكري المباشر لمليشيات غرب ليبيا، مع صرف النظر عما تقوم به تركيا ودول أخرى في هذا المجال لفرض توازن ميداني مع الجيش الوطني الليبي، الذي يقوده المشير خليفة حفتر؛ لتكتفي الجزائر بـتصريحات متكررة عن رفضها كافة أشكال التدخل العسكري الخارجي في ليبيا.
5- تأمين الحدود عبر مُقاربة أمنية مشتركة: يتمثل أحد أهم العوامل التي تستند إليها الجزائر في الاهتمام بالملفات الأمنية، خاصة في منطقة الساحل الأفريقي، في “الحدود” وكيفية تأمينها؛ بما لها من أبعاد أمنية تتضمن تهديدات عابرة لهذه الحدود إلى الداخل، وهو الاهتمام الواضح في معظم أبعاد السياسة الخارجية الجزائرية.
فعقب انهيار الدولة في ليبيا، وتنامي ظاهرة الإرهاب، وتدفق الأسلحة من مخازنها إلى دول الساحل، وإلى جماعات العنف والإرهاب؛ استندت الجزائر إلى محاولة التشارك مع دول الساحل، ومع الدول الأفريقية عموماً، في مُقاربة أمنية للحد من تداعيات هذه المشكلات الأمنية بالأساس.
6- تفعيل الدور الجزائري في مجلس الأمن: من بين الملفات التي تم بحثها، في إطار الندوة العاشرة، التي استضافتها الجزائر، كان ملف الاستفادة من تجارب الأعضاء الأفارقة السابقين في مجلس الأمن الدولي، من جانب الأعضاء الجدد، لا سيما الجزائر وسيراليون.
بل إن أعمال الندوة كانت بمثابة دعم لعضوية الجزائر وسيراليون، بداية من أول يناير المُقبل، إضافة إلى محاولة كسب المساندة للدولتين عبر “التقارب بين الدول الأفريقية، لا سيما فيما يخص إسماع الصوت الأفريقي في المجلس”، بحسب تصريحات عطاف في ختام الندوة.
اهتمام جيوسياسي
في هذا السياق، يُمكن القول إن التحولات الراهنة التي طرأت على دول الجوار الإقليمي للجزائر قد أسهمت في تعرض دوائرها الجيوسياسية لتحديات أمنية، أهمها تلك التي تتمثل في تنامي التهديدات المرتبطة بالإرهاب، والجريمة المنظمة، وانتشار الأسلحة، وغيرها، إلى جانب انهيار الدولة في ليبيا، وصعوبة إعادة الاستقرار إلى مالي، والانقلابات التي شهدتها منطقة الساحل الأفريقي، في بوركينافاسو ومالي والنيجر، مع تنامي التنافس العسكري الأجنبي في الساحل الأفريقي.
وبالتالي، تجد الجزائر نفسها مرتبطة أمنياً بعدة دوائر إقليمية غير مستقرة، بما يعني إمكانية تعرضها لعديد من المخاطر، من شأنها أن تهدد استقرارها وأمنها القومي، بما يدفعها إلى الاهتمام بكافة المنتديات الأمنية الأفريقية.