انتصار تكتيكى وهزيمة استراتيجية – الحائط العربي
انتصار تكتيكى وهزيمة استراتيجية

انتصار تكتيكى وهزيمة استراتيجية



للمفكر الاستراتيجى كارل كلاوزفيتز مقولة شهيرة هي «أن الحرب امتداد للسياسة بأدوات أخرى»، بمعنى أن استخدام القوة العسكرية لابد أن يرتبط بهدف سياسى، ودون تحقيق هذا الهدف يصعب تحديد الانتصار أو الهزيمة.

تذكرت هذه المقولة وأنا أقرأ تصريحًا لوزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن، عقّب فيه على الحرب الدائرة الآن في غزة، حيث ذكر أنه تعلم بعض الأشياء عن حرب المدن في الوقت الذي قضاه في القتال في العراق، وأثناء قيادته الحملة ضد داعش، وهو قتال كان متجذرًا بعمق في المناطق الحضرية، وأن الدرس المستفاد هو أنه لا يمكنك الفوز في حرب المدن إلا من خلال حماية المدنيين. وأنه في هذا النوع من القتال، فإن مركز الثقل هو السكان المدنيون. وإذا دفعتهم إلى أحضان الخصم، «فإنك تستبدل النصر التكتيكى بهزيمة استراتيجية». وأضاف «أوستن» أنه أوضح مرارًا وتكرارًا لقادة إسرائيل «أن حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة تشكل مسؤولية أخلاقية وضرورة استراتيجية».

الرئيس الفرنسى ماكرون تحدث عن معنى مشابه عندما أكد أن «الأمن المستدام» لا يمكن ضمانه لإسرائيل إذا «كان ذلك على حساب أرواح الفلسطينيين، ومن ثَمَّ إثارة استياء الرأى العام في المنطقة ككل». وقال ماكرون: «ماذا يعنى القضاء على (حماس) بالكامل؟. هل يعتقد أحد أن هذا ممكن؟.. إذا كان الأمر كذلك، فإن الحرب ستستمر عشر سنوات». وأضاف: «لذا يجب توضيح هذا الهدف من جانب السلطات الإسرائيلية»، محذرًا من «حرب لا تنتهى».

الأخطاء الاستراتيجية لا ترتبط فقط بأهداف الحرب وطريقة إدارتها، بل عدد منها يعود إلى ما قبل الحرب. الكاتب الإسرائيلى مايكل ميلشتاين كتب في صحيفة يديعوت أحرونوت أن هجوم ٧ أكتوبر هو مثل حرب أكتوبر ١٩٧٣، حيث إنه يعكس نقصًا إسرائيليًّا شديدًا في فهم الواقع وليس مجرد فشل استخباراتى، وأن أحد ملامح هذا القصور في الفهم يتعلق بحماس، حيث إن الافتراض السائد في إسرائيل هو أن الجماعة تتطور، الأمر الذي دفعها إلى الاعتدال في أيديولوجيتها والتركيز على ترسيخ حكمها، وهو ما تجاهل سعى الجماعة لتحقيق رؤيتها. ووفقًا للكاتب الإسرائيلى، فإن هذا يعكس فجوة بين التصور الإسرائيلى الذي يعتمد إلى حد كبير على اعتبارات السياسة الواقعية، والتصور القائم على الثقافة، والذى يلعب فيه المعتقد الدينى المتحمس دورًا مركزيًّا.

فجوة أخرى توضح الافتقار الإسرائيلى لفهم جوهر حماس هو الاعتقاد أن حماس يمكن أن تستسلم للإغراء من خلال الجزرة الاقتصادية، مثل إرسال العمال من غزة للعمل في إسرائيل وتحسين البنية التحتية المدنية، وأن ذلك سيخلق شيئًا ستخسره حماس، وبالتالى يقلل من احتمالات التصعيد. بالإضافة إلى المبالغة في تقدير تأثير الترتيبات الاقتصادية على المواطنين في غزة، والاعتقاد بأن تحسين ظروف سكان غزة من شأنه أن يعزز الاستقرار، وأن أي تصعيد سيؤدى إلى احتجاجات ضد حماس.

ومن ضمن الأخطاء الأخرى في الرؤية الاستراتيجية لإسرائيل الاعتقاد أن حماس تم ردعها بالقوة العسكرية، وخاصة بعد العملية العسكرية في غزة في مايو ٢٠٢١، واعتقاد الساسة والعسكريين الإسرائيليين أن حماس تلقت ضربة قاسية، وبالتالى تم ردعها. يُضاف إلى ذلك تقديس الإسرائيليين للتكنولوجيا والاعتماد على المعلومات التي يتم الحصول عليها بوسائل متقدمة، مما خلق شعورًا بالتفوق الاستخباراتى. ولم ترصد تلك المصادر نفسها المؤشرات الأولية للهجوم، والتى تم التقاطها من خلال معلومات استخباراتية بسيطة.

ا الخطأ الأكبر فهو الخوف من القضية الفلسطينية. وقد نبع ذلك من التقارب بين رجال الدولة، الذين يخشون التعامل مع قضية حساسة قد يكون لها ثمن سياسى، وجمهور محبط من إمكانية التوصل إلى أي نوع من التسوية، ونظام أمنى حذر من التطرق إلى قضية سياسية مشحونة. وعندما صدرت التحذيرات الاستراتيجية بشأن القضية الفلسطينية، ركزت على الضفة الغربية، مع تعريف التهديد القادم من غزة بأنه «تم احتواؤه».

ويختتم الكاتب مقاله بالقول إنه في نهاية الحرب، لن يكون التحقيق العسكرى كافيًا، ومن الضرورى أن يتم إجراء نقاش وطنى، يتمحور حول مسألة ما إذا كان المجتمع الإسرائيلى لديه فهم عميق بما يحيط به، وتأتى في المقام الأول دراسة لغة وثقافة «الآخر» سواء لغرض القضاء على التهديدات أو إدارة الاتصالات.

باختصار، تكشف حرب غزة وإدارة إسرائيل لعلاقتها مع حماس عن عدد من الحقائق الاستراتيجية الغائبة عن التفكير الإسرائيلى، ومنها أن البُعد الثقافى والعقائدى لا يقل أهمية في التحليل عن البُعد الواقعى، وأن السلام الاقتصادى وتحسين الأحوال المعيشية لا يمكن أن يحل محل السلام السياسى وإنهاء الاحتلال، وأن القوة العسكرية والتقدم التكنولوجى لا يحققان الأمن، وأنه لا يمكن تجاهل حل القضية الفلسطينية، وأن إدارة الحرب دون اعتبار لأرواح المدنيين قد تحقق نصرًا تكتيكيًّا، ولكنه في النهاية سيؤدى إلى هزيمة استراتيجية.

نقلا عن المصري اليوم