هذه لحظة تاريخية فارقة – الحائط العربي
هذه لحظة تاريخية فارقة

هذه لحظة تاريخية فارقة



فلسطين هى القضية، والفاعلون فيها من فتح الى حماس تفاصيل مؤقتة لن تدوم، ولا ينبغى الوقوف عندها، لأن كل هذه التنظيمات والحركات السياسية فواعل اجتماعية تنتجها ظروف معينة، وينتهى دورها بزوال ظروف وجودها، ودائما يبقى الانسان والمجتمع، وتبقى الأرض. وفى فلسطين شهد تاريخنا أهم لحظاته الفارقة، ففى 1187م انتهت اسطورة الحملات الصليبية، وتم تحرير بيت المقدس منهم، فى معركة حطين على يد الجيش المصرى، وحطين تقع بين الناصرة وبحيرة طبرية فى شمال فلسطين. وفى 1260م انتهت اسطورة المغول والتتار على يد الجيش المصرى ايضا فى عين جالوت التى تقع بين مدينة بيسان شمالا، ومدينة نابلس جنوبا فى وسط فلسطين.

واليوم وبعد هذه المأساة التى حدثت دون أن يكون لكل ضحاياها رأى فى توقيت حدوثها، ولكنها حدثت، وهنا أيضا لا ينبغى الوقوف كثيرا عند الحوادث؛ لأنها وقعت ولا مجال لأن يتم منع وقوعها، ولذلك فإن التفكير الإستراتيجى العميق ينبغى أن ينصرف الى نتائجها وتداعياتها لعلنا نستطيع استثمار ما يفيدنا منها، ونتجنب غير ذلك. وفى النقاط التالية يمكن طرح مجموعة من تلك النتائج للتفكير والتأمل.

أولا: إن إنهاء مأساة الشعب الفلسطينى يحتاج الى حالة من التوافق الفلسطينى أولا، ثم العربى ثانيا، لأن حالة التفكك والانقسام التى اصابت القضية الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو 1993، وتعمقت مع انقلاب حماس فى غزة 2007كانت السبب فى سلسلة متكررة من الحروب دفع فيها الفقراء ثمن وحشية المحتل، ونزعاته الانتقامية غير المعهودة عند المتحضرين من البشر، وهذا الثمن القاسى من الأرواح والممتلكات لم يقابله أى عائد سياسى للقضية الفلسطينية. كذلك فإن حالة الانقسام العربى حول القضية الفلسطينية منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973 مكنت المحتل من تنفيذ كل مخططاته الاستعمارية.

ثانيا: إن مجريات الحرب الحالية على غزة وحالة التوحش الانتقامى غير المسبوق من دولة الاحتلال، تؤكد أنه لا يمكن التعايش مع كيان بهذا القدر من العنصرية والاستعلاء، وعدم احترام جميع الأعراف والقوانين والقيم الإنسانية، فقد تفوقت العقيدة الصهيونية على ذاتها، ومارست نفس الممارسات التى عاناها شعبها على يد النازى وغيره، فلم يعرف العالم منذ الحرب العالمية الثانية هذا القدر من القتل المتعمد للمدنيين أطفالا وشيوخا ونساء فى الملاجئ المحمية من الأمم المتحدة، وفى المدارس والمستشفيات. فقد اثبت هذا النظام أنه لا يحترم الأطر القانونية الدولية، والاتفاقيات والمعاهدات.

ثالثا: إن الهجوم على إسرائيل فى 7 أكتوبر 2023، هو الحالة الأولى بعد حرب 1948، ولذلك من المتوقع أن يفقد هذا الهجوم – بعنفه وقسوته، واستهدافه المدنيين وهو امر مرفوض ولا يقره شرع ولا دين – مفهوم الامن فى المجتمع الإسرائيلى، ومن ثم سوف يؤثر على الهجرة القادمة، بل ويدفع العديد من السكان الى الهجرة المعاكسة الى خارج اسرائيل، وإسرائيل فى جوهر وجودها هى مشروع هجرة. ويأتى هذا الحادث فى لحظة تاريخية يدور فيها الحديث داخل إسرائيل عن لعنة الثمانين، تلك العقدة التى تقول إنه لم تعمر دولة لليهود أكثر من ثمانين عاما، والغريب أن رئيس الوزراء الحالى بنيامين نيتانياهو فى كلمة له عام 2017 حذر من لعنة العقد الثامن، ووعد بأن يجعل إسرائيل تتجاوز هذه اللعنة، وتكمل عامها المائة. وبعده كرر رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك نفس المخاوف من قرب زوال إسرائيل، ففى مقال له بصحيفة يديعوت أحرونوت يوم 7 مايو 2022، قال باراك على مرّ التاريخ اليهودى لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 سنة؛ حيث كانت بداية تفككها فى العقد الثامن، وإن تجربة الدولة الحالية هى التجربة الثالثة وهى الآن فى عقدها الثامن، وإنه يخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتها.

رابعاً: إن حالة التواطؤ الامريكى والاوروبى مع حكومة اليمين المتطرف فى إسرائيل، وتوفير الغطاء الدولى لهذا القدر الفظيع من الجرائم ضد الإنسانية؛ التى تتعمد قتل المدنيين فى المستشفيات والمدارس، بل ومعارضة رؤساء دول خصوصا ألمانيا وامريكا لوقف اطلاق النار، وتشجيع المعتدى على الاستمرار فى استهداف المدنيين بدافع الانتقام والتشفى، كل ذلك سوف يفقد العالم الغربى دوره ومكانته فى المنظومة الدولية، وسوف ينزع الشرعية عن المؤسسات الدولية التى أنشأها العالم الغربى، ووظفها لخدمة مصالحه، وسوف يضعف دور القانون الدولى فى تنظيم العلاقات بين الدول، وكل ذلك سوف يسرع عملية الانتقال الى عالم ما بعد الغرب، وهذا سوف يصب فى تعظيم دور روسيا والصين كقوى دولية صاعدة فى مواجهة العالم الغربي.

خامساً: إن حالة الدعم والتأييد الشعبى فى مختلف انحاء العالم للقضية الفلسطينية التى أسهمت فى تعظيمها وسائل التواصل الاجتماعى قد خلقت عالما جديدا مختلفا عما كان قبل احداث 7 أكتوبر الماضى، حيث هناك جيل جديد من جميع الأديان والاوطان واللغات يحمل منظومة قيم إنسانية تمثل المشتركات بين البشر، وتتجاوز خطوط التمييز بينهم، فلم يعد الجيل الجديد من اليهود فى أمريكا مثلا مرتهنا للسردية التى سوقتها الحركة الصهيونية، وكذلك لم يعد المسيحيون فى الغرب يستهلكون تلك الشعارات القديمة عن الإرهاب الإسلامى، واصبح العالم اليوم تجمعه منظومة قيم ومبادئ لابد من تعظيمها، لأن هذا الجيل لن يقبل تحويل الصراعات السياسية الى حروب دينية حتى ولو شارك فيها من يوظفون الدين لمصالحهم.

نقلا عن الأهرام