اهتزت صورة إسرائيل التى لا تقهر، وتحديدا سمعة الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية والأمنية منذ نجاح حماس فى تحقيق عملية الاختراق العسكرية التى قامت بها. عنصر المفاجأة شكَّل سقطة مدوية ليس فقط لسمعة تلك الأجهزة فحسب بل لمفهوم الأمن القومى الإسرائيلى المحصن خير تحصين. ويبدو الارتباك على أشده بين التهديد بالغزو فورا والذى يتكرر، وتأخير تنفيذ ذلك القرار إدراكا لصعوبة إن لم يكن استحالة تحقيق تلك الأهداف التى أعلنتها إسرائيل. وللتذكير أعلن وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالانت عن أهداف ثلاثة: وهى القضاء على حماس وتدمير قدراتها العسكرية، والأخرى الإزالة الكاملة لجيوب المقاومة، وإقامة نظام أمنى جديد فى القطاع. وقد أعلن جالانت أنه سيتم تحقيق ذلك فى فترة تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر. عملية احتلال شمال غزة، كما تهدد إسرائيل بالقيام بذلك لأنه من شبه المستحيل احتلال جميع أراضى القطاع، دونها الكثير من الصعوبات إذا ما تمت. فهى ستودى إلى استنزاف كبير ومستمر للقوة الإسرائيلية المحتلة خاصة فى ظل التعبئة الفلسطينية الحاصلة حاليا والتى ستزداد زخما مع الاجتياح إذا ما حصل. اللجوء إلى استراتيجية «الهجوم المتكرر» (غزو وانسحاب) بقوة نارية قصوى لن تأتى أيضا بالنتيجة المعلن عنها إسرائيليا، أى هزيمة حماس «وإخراجها كليا من الملعب». السيناريو الأكثر واقعية قوامه تصعيد كلى للقتال والعدوان الواسع على القطاع فى حرب ممتدة فى الزمان ومن غير المستبعد أن تمتد فى المكان ولو بأشكال أخرى، أقل ضراوة فى البداية، مقارنة مع الحرب ضد قطاع غزة. وقد بدأنا نشهد إرهاصات هذا السيناريو مع ازدياد أعمال المقاومة والمواجهة للاحتلال بأشكال مختلفة فى الضفة الغربية وخاصة فى ظل ازدياد أعمال العنف والاعتداء من قبل المستوطنين على السكان الفلسطينيين.
خلاصة القول، إن إسرائيل وضعت السقف عاليا فيما يتعلق بأهدافها من هذه الحرب وهى أسيرة وضع قوامه أنها غير قادرة على تحقيق الأهداف التى أعلنتها وتكرر التأكيد عليها. على صعيد آخر، فإن الانحياز الأعمى للموقف الأمريكى ومعه الأوروبى بشكل عام إلى جانب إسرائيل فى «تفهم» وبالتالى شرعنة الحرب الإسرائيلية أفشل حتى الآن محاولة البحث الجدى فى العمل على وقف الحرب الدائرة وولوج باب التهدئة. موقفان عربيان مهمان للقوى العربية التى انخرطت فى عملية وقف الحرب الدائرة. الحرب التى ستؤدى إذا ما استمرت وبالطبع تصاعدت إلى مزيد من التعقيدات والتوترات ليس فقط على الصعيد الفلسطينى الإسرائيلى بل على الصعيد الإقليمى مستقبلا بتداعيات مكلفة للجميع. تم إلغاء القمة الرباعية التى كان يفترض أن تجمع قادة مصر والأردن والسلطة الفلسطينية مع الرئيس الأمريكى كرسالة بشأن موقفه الداعم بشكل غير مشروط للعدوان الإسرائيلى. الموقف الآخر برز فى الخلاف العربى الغربى بشكل خاص فى قمة السلام التى دعت إليها واستضافتها القاهرة، حيث كان هناك إصرار من الأطراف الغربية الأساسية المشاركة على تضمين البيان «التفهم» وبالتالى التبرير للأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة رغم الخسائر البشرية الكبيرة لهذا العدوان مما لم يسمح للقمة فى حقيقة الأمر من تحقيق هدفها الأساسى لأنها لم تستطع التوافق على بيان لوقف القتال، بسبب هذا الانحياز الغربى، وبالتالى الاتفاق على خطوط عامة لخطة عمل للتهدئة والذهاب نحو إحياء المسار السياسى للتسوية السلمية للنزاع. مسار رغم العوائق الكثيرة أمامه، لكنه يبقى الطريق الوحيد لإنهاء حالة الحرب والاحتلال وإحلال السلام وفق القرارات الدولية ذات الصلة. وتبدو هنالك قطيعة واضحة وفاضحة بين تكرار مجمل القوى الغربية إعلانها دعم لعملية السلام ولحل «الدولتين اللتين تعيشان جنبا إلى جنب» من جهة وبين الانخراط المطلوب منها بشكل واضح وحازم لوقف الحرب من جهة أخرى. وهنالك العديد من صيغ التعاون التى يمكن بلورتها إذا ما توفرت الإرادة ومعها الحزم لولوج ذلك الطريق للتشجيع والتحفيز بغية إحياء ومواكبة عملية المفاوضات المطلوبة التى تبدأ بوقف القتال وباتخاذ خطوات عملية لخفض التوتر وتبريد الجبهات وفك الاشتباك والذهاب بعد ذلك نحو المفاوضات السياسية على أساس المرجعيات التى أشرنا إليها سابقا، لإحلال السلام الشامل والعادل والدائم وفتح صفحة جديدة من العلاقات فى الإقليم تساهم فى الاستقرار والازدهار لجميع دوله وشعوبه.
حقيقة الأمر أننا اليوم أمام سباق بين محاولات إسرائيل فرض واقع جديد فى الصراع يهدد أى أمل بالتوصل إلى السلام المبنى بشكل أساسى، وضمن شروط أخرى، على تحقيق الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطينى من جهة، وبين إيقاف هذه السياسة، الحاملة والواعدة بمزيد من الحروب والدمار من جهة أخرى، وليس ذلك بالأمر السهل خاصة مع أحزاب الصهيونية الدينية المتشددة والممسكة بالسلطة فى إسرائيل: ليس بالأمر السهل ولكنه يبقى بالأمر الضرورى والواقعى والمبدئى لبناء شرق أوسط جديد طال انتظاره. وعلينا أن ندرك، كما تدل الكثير من المؤشرات، أن الانتظار سيطول، فى ظل مخاوف من توسع الحرب على الصعيد الإقليمى، دون أن يسقط ذلك الهدف الذى قوامه أساسا إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
نقلا عن الشرق