يمكن تفسير اهتمام اليابان بطرح مبادرة جديدة لتسوية أزمة الاتفاق النووي الإيراني في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في تعزيز مصالحها في الشرق الأوسط، وتجنب تصاعد حدة التوتر بين طهران وواشنطن، ومزاحمة الحضور الصيني في المنطقة، وتجنب التعرض لتهديدات باستهداف مصالحها، والتماهي مع السياسات الأمريكية في المنطقة والعالم.
رغم أن اليابان لم تكن إحدى القوى الدولية التي شاركت في المفاوضات مع إيران التي أدت إلى التوصل للاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، إلا أنها أبدت اهتماماً خاصاً بهذا الاتفاق، وبدت حريصة على استثماره من أجل تعزيز مصالحها في الشرق الأوسط، خاصة أن تطوير العلاقات مع إيران ودول مجلس التعاون الخليجي يأتي في قمة أولويات سياستها الخارجية إزاء المنطقة.
بل إن اليابان حاولت في بعض الأحيان ممارسة دور “ناقل الرسائل” بين طهران وواشنطن، على نحو بدا جلياً في الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الأسبق شينزو آبي إلى طهران، في 13 يونيو 2019، والتي حاول فيها نقل رسالة من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى المرشد الأعلى علي خامنئي الذي رفض استلامها، مما سبب إحراجاً لرئيس الوزراء الياباني الذي اضُّطر إلى وضعها جانباً خلال اللقاء.
من هنا، لم يكن الاهتمام الياباني بمتابعة وتقييم التطورات المختلفة الخاصة بالاتفاق النووي جديداً، لكن اللافت في هذا السياق أن هذا الاهتمام قد تزايد في الفترة الأخيرة، على نحو بدا جلياً في مؤشرات عديدة منها قيام طوكيو بطرح مبادرة جديدة للوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بحسب تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 26 سبتمبر الجاري، وقبلها دعوة اليابان لعبد اللهيان لزيارتها، في 7 أغسطس الفائت.
دوافع عديدة
يمكن تفسير اهتمام اليابان بدعم الجهود التي تُبذل من أجل الوصول إلى تسوية لأزمة الملف النووي الإيراني في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تعزيز المصالح اليابانية في الشرق الأوسط: ترى طوكيو أن استمرار أزمة الاتفاق النووي يُمكن أن يهدد مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما فيما يتعلق بوارداتها النفطية من المنطقة، وعلاقاتها الاقتصادية مع دول مجلس التعاون الخليجي. وبحسب تقديرات عديدة، فإن اليابان تعتمد على منطقة الشرق الأوسط في الحصول على ما يتراوح بين 90% و95% من وارداتها النفطية. ففي يوليو 2023، وصلت الواردات النفطية اليابانية من المنطقة إلى أكثر من 72 مليون برميل نفط، كان منها 69 مليون برميل من خمس دول عربية (هي: الإمارات، والسعودية، والكويت، وقطر، والبحرين). وقد كان هذا الملف أحد محاور المباحثات التي أجراها رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا خلال زيارته لمنطقة الخليج العربي في الفترة من 16 إلى 18 يوليو الماضي، والتي شملت كلاً من السعودية والإمارات وقطر.
2– تجنب تصاعد حدة التوتر في منطقة الخليج: لا تستبعد اليابان أن تتصاعد حدة التوتر في منطقة الخليج في ظل التطورات الحالية التي يشهدها الاتفاق النووي. فرغم توصل إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى صفقة لتبادل السجناء تم تنفيذها في 18 سبتمبر الجاري، إلا أن ذلك لم ينعكس بشكل كبير على التفاهمات التي ما زالت تجري بين الطرفين حول الاتفاق النووي. بل إن الطرفين بديا حريصين على تأكيد أن هذه الصفقة منفصلة عن الاتفاق ولا تعكس تغيراً في سياسة كل منهما إزاء الآخر. وبدأت إيران بدورها في تبني خطوات تصعيدية جديدة على غرار إطلاق قمر صناعي عسكري في 27 سبتمبر الجاري، وهي خطوة من شأنها أن تُثير ردود فعل متشددة من جانب الدول الغربية. كما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، في 28 من الشهر نفسه، أن زوارق تابعة لبحرية الحرس الثوري أطلقت أشعة ليزر على مروحية أمريكية أثناء تحليقها في أجواء منطقة الخليج العربي.
وفي رؤية طوكيو، فإن محفزات تزايد وتيرة هذا التصعيد ما زالت قائمة وبقوة. إذ إن الخلافات ما زالت متعددة في الاتفاق النووي، كما أن إيران ما زالت حريصة على مواصلة تطوير أنشطتها النووية، فضلاً عن أنها تستعد، على ما يبدو، لرفع الحظر الأممي على الأنشطة المرتبطة بالصواريخ الباليستية في 18 أكتوبر القادم، وهي خطوة استبقتها بعض الدول الأوروبية بتأكيد استمرار العقوبات المفروضة على إيران في هذا الصدد.
2- احتواء تصاعد دور الصين في المنطقة: رغم أن اليابان سارعت إلى إبداء دعمها للدور الذي مارسته الصين في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، من خلال توقيع اتفاق بكين في 10 مارس الماضي، واعتبرت أنه خطوة إيجابية، إلا أنها في الوقت نفسه تتحسب للتداعيات المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن تزايد الحضور الصيني في بعض الملفات الإقليمية الرئيسية في المنطقة. وهنا، فإن التنافس مع بكين يبقى متغيراً أساسياً يمارس تأثيراً مباشراً على المقاربة التي تتبناها طوكيو إزاء التطورات التي تشهدها المنطقة بشكل عام. وقد تزايد قلق اليابان من هذا الحضور عقب مشاركة الرئيس الصيني في ثلاث قمم سعودية وخليجية وعربية خلال زيارته للسعودية في ديسمبر الماضي.
ومن هنا، لم تكتفِ اليابان بالزيارات المتتالية التي يقوم بها مسؤولوها إلى المنطقة، وكان آخرهم رئيس الوزراء فوميو كيشيدا، بل إنها بدت حريصة على عقد اجتماع مشترك على مستوى وزراء الخارجية في 7 سبتمبر المنصرم، والذي ركز على تناول مجمل العلاقات الثنائية التي تجمع بين اليابان ودول مجلس التعاون الخليجي، والآليات المتاحة من أجل تعزيزها وتطويرها على المستويات المختلفة. وقال وزير الخارجية الياباني إن اليابان تولي أهمية خاصة لتعزيز الحوار الاستراتيجي مع دول مجلس التعاون، والبناء على ما تم الاتفاق عليه في مذكرة التفاهم الموقّعة في يناير 2012، وتمديد خطة العمل المشترك بينهما للفترة من 2024 وحتى 2028.
3- تجنب النموذج الكوري الجنوبي: تُبدي طوكيو مخاوف من أن استمرار تعثر المفاوضات الخاصة بالاتفاق النووي، وبالتالي تصاعد حدة التوتر بين إيران والدول الغربية يمكن أن يفرض تأثيرات سلبية على مصالحها، خاصة أنها حريصة على الالتزام بالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران. إذ لم تفرج اليابان عن الأموال الإيرانية المجمدة لديها نظير الصادرات النفطية الإيرانية. وقد وجّهت إيران دعوات متكررة إلى طوكيو للإفراج عن تلك الأموال. ففي 29 أغسطس الفائت، دعا الرئيس إبراهيم رئيسي اليابان إلى إظهار استقلاليتها عن الولايات المتحدة الأمريكية بالإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة لديها، والتي تصل، حسب بعض التقديرات، إلى 1.5 مليار دولار.
وهنا، فإن إيران لا تكتفي بتوجيه تلك الدعوات، وإنما تسمح لوسائل الإعلام الرئيسية، على غرار صحيفة “كهيان” المتشددة، بتوجيه تهديدات بإمكانية إغلاق مضيق هرمز في وجه السفن التابعة للدول التي تعزف عن الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة التزاماً من جانبها بالعقوبات الأمريكية، على نحو يمكن أن يتسبب في أزمة اقتصادية لتلك الدول نتيجة اعتمادها بشكل كبير على واردات الطاقة من منطقة الخليج العربي.
4- التماهي مع السياسة الخارجية الأمريكية: لا تنحصر الملفات التي تحظى باهتمام مشترك بين اليابان وإيران في البرنامج النووي، وإنما تمتد أيضاً إلى الحرب الروسية-الأوكرانية. إذ تبدي طوكيو اهتماماً خاصاً بتقييم التداعيات التي يمكن أن تنجم عن استمرار الدعم العسكري الإيراني لروسيا لمساعدة الأخيرة في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا عبر مدها بالطائرات من دون طيار.
وهنا، فإن ذلك يُمثل مؤشراً جديداً ليس فقط على حرص اليابان على تبني سياسة تتوافق بشكل كبير مع السياسات التي تتبناها الدول الغربية، وإنما أيضاً على توسع نطاق الخلافات مع الصين التي تتبنى سياسة تتماهى إلى حد كبير مع السياسة الروسية إزاء الحرب.
وفي هذا السياق، طالب وزير الخارجية الياباني يوشيماسا هاياشي، خلال لقائه نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 7 أغسطس الفائت، إيران بالتعامل بشكل بناء مع الحرب الروسية-الأوكرانية، وعدم تزويد روسيا بأسلحة لاستخدامها في الحرب.
متغيرات رئيسية
لم تكن المبادرة التي طرحتها اليابان لتسوية أزمة الاتفاق النووي هي الوحيدة في هذا السياق، فقد توازت معها مبادرات أخرى، على غرار مبادرة سلطان عُمان هيثم بن طارق. لكن ذلك لا يمثل نهاية المطاف. إذ إن مدى نجاح تلك المبادرات في تحقيق أهدافها سوف يتوقف في المقام الأول على إمكانية الوصول إلى تسوية للخلافات العالقة بين طهران وواشنطن، وهي خلافات لا تبدو ثانوية ولا يمكن احتواؤها بسهولة. فضلاً عن أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية يفرض ضغوطاً أقوى في هذا السياق، باعتبار أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لن تتجه إلى إبداء أي مرونة في سياستها تجاه إيران لتجنب التعرض لمزيد من الانتقادات من جانب الحزب الجمهوري وبعض منتقدي سياستها من الحزب الديمقراطي.