عادت قضية “حصر السلاح بيد الدولة” مرة أخرى إلى الواجهة في بلاد الرافدين، إذ أعلن وزير الداخلية العراقي “عبدالأمير الشمري” خلال مؤتمر صحفي، في 21 سبتمبر 2023، عن تشكيل “لجنة وطنية دائمة” لتنظيم الأسلحة وحصرها بيد الدولة، والتوجه لفتح مكاتب لتسجيل الأسلحة في جميع المحافظات العراقية لمعرفة كميتها ومصادرها ومالكيها وفيما تستخدم، مشيراً إلى أن ذلك سيكون ضمن جدول زمني مدروس.
وقد أفاد “عبدالأمير الشمري” بأن السبب الرئيسي في فتح قاعدة بيانات لتسجيل الأسلحة يكمن في عدم تعرض صاحبها للمساءلة القانونية، خاصةً إذا كان يمتلك أسلحة متوسطة أو ثقيلة من جهة أو مصادرة الأسلحة غير المسجلة من جهة أخرى، ولكن في الوقت ذاته فإن الوزير العراقي كان قد أعلن أواخر مارس الماضي عن “قرار يقضي بحق (4) فئات مجتمعية في حيازة السلاح، ولكن شريطة تسجيله بشكل قانوني، وهي: المقاولون، والتجار، وصاغة الذهب، وأصحاب محلات الصرافة”.
في ضوء ما تقدم، فإن هناك جملة من الدوافع وراء تكثيف الحكومة العراقية برئاسة “محمد شياع السوداني” لجهودها من أجل حصر السلاح الموجود خارج المنظومة الأمنية العراقية، والذي يقدر وفقاً لبعض التقديرات (غير الرسمية) بما بين 13 و15 مليون قطعة سلاح متوسط وخفيف، يمكن إبرازها على النحو التالي:
مواجهة الفشل
1- احتواء فوضى انتشار السلاح في البلاد: جدير بالذكر أن بلاد الرافدين تعاني منذ عقدين من فوضى هائلة في انتشار السلاح، بيد عدد من الفصائل والمليشيا المسلحة التي ظهرت بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وسعت للهيمنة وفرض سيطرتها على مؤسسات صنع القرار بقوة السلاح، وهو ما دفع رؤساء الحكومات العراقية لإطلاق تعهدات ووعود بالعمل على حصر السلاح بيد الدولة “السلاح المنفلت” ومحاربة انتشار الجريمة وتفشي الفساد، بداية من “إبراهيم الجعفري” رئيس الحكومة العراقية الانتقالية عام 2003، و”نوري المالكي” رئيس الحكومة بين عامي 2006 و2014، مروراً بحكومة “حيدر العبادي” عام 2014، ثم حكومة “عادل عبدالمهدي” عام 2018، حتى حكومة “مصطفى الكاظمي” عام 2020؛ إلا أن هذه الحكومات لم تُحقق أي إنجاز أو خطوة من أجل استرداد العراق ومحاسبة المنفلتين، وهو السبب ذاته الذي دفع الحكومة الحالية برئاسة “محمد شياع السوداني” للسير على نهج أسلافه في محاولة للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة.
اختراق حكومي
2- محاولة “السوداني” تحقيق إنجاز ببرنامجه الحكومي: منذ تولي رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” منصبه في أكتوبر 2022، وضع هذا الملف على رأس أولوياته كغيره من رؤساء الحكومات العراقية السابقين؛ إلا أن الوضع هذه المرة مختلف، نظراً لكون “السوداني” (المدعوم من قوى الإطار التنسيقي الشيعي الموالي لإيران) على عكس أسلافه الذين فشلوا في إحداث اختراق بهذا الملف، يحظى بدعم سياسي من قبل عدد من القوى والأحزاب ذات المرجعية الشيعية، وخاصة التي لديها أجنحة عسكرية ومنضوية تحت لواء قوات “الحشد الشعبي”. وهو ما شكل دافعاً لدى “السوداني” لإطلاق تعهد عقب أيام قليلة من توليه رئاسة الوزراء بدعم من أحزاب شيعية، في جلسة أمام البرلمان العراقي مطلع نوفمبر 2022، بإنهاء ظاهرة ما أطلق عليه “السلاح المنفلت” في برنامجه الحكومي، بل ودعا جميع الكتل السياسية العراقية لمساندته بهذا الملف تحديداً، وعدم معارضته بأي شكل، ولذلك فإن إعلان وزير الداخلية العراقي عن تدشين مكاتب تسهم في حصر السلاح بيد الدولة، تعد محاولة من قبل “السوداني” لتحقيق أي إنجاز لحكومته، خاصة أنه مطلب شعبي، ونجاح رئيس الحكومة الحالية في احتوائه سيسهم في حصوله على دعم شعبي عارم.
تقويض الدور
3- التصدي لنفوذ الفصائل المسلحة المدعومة إقليمًيا: إن من أبرز الأسباب وراء فشل الحكومات العراقية السابقة في احتواء ظاهرة “السلاح المنفلت” هو المليشيا المسلحة المتجاوزة لسلطة الدولة، والمنتشرة في بلاد الرافدين، وينتمي معظمها لـ”قوات الحشد الشعبي العراقية” التي تحمل السلاح بكل حرية، بل ويوجد بعضهم في أروقة مؤسسات صنع القرار بالدولة، وما ساهم في ذلك أن هذه القوات (شبه العسكرية) اندمجت رسمياً في القوات المسلحة العراقية عام 2016، تحت مزاعم قيامها بدور حاسم في محاربة تنظيم داعش. وتجدر الإشارة إلى أنه حينما أعلن العراق مطلع أغسطس الماضي عن حجب تطبيق “تليجرام” بشكل مؤقت، فإن هذه الفصائل انتقدت هذا القرار بشدة، بل وهددت الحكومة بالتصعيد في حال لم تتراجع عن قرار الحجب، وبالفعل استجابت الحكومة بعد أيام قليلة وأُعيد تطبيق “تليجرام” للعمل مرة أخرى. وهو ما يعني قوة وتأثير هذه المليشيا المدعومة من قوى إقليمية خاصة إيران، التي تمتلك في الوقت ذاته مخازن داخل المدن والأحياء السكنية العراقية، تحوي عشرات الآلاف من الأسلحة المتوسطة والثقيلة كالمدافع والصواريخ والعبوات الناسفة والمتفجرات وغيرها، وهو الأمر الذي تستغله لتهديد كيان الدولة وجعل قراراتها الحكومية “هشة”، ولذلك يبدو أن “السوداني” الذي سبق ودعا لعدم معارضة أي قوى سياسية لجهود حصر السلاح بيد الدولة، يحاول إضعاف دور هذه الفصائل وتقويض دورها الذي يهدد كيان الدولة من جهة، ويعزز نفوذ دول إقليمية داخل البلاد من جهة أخرى.
نزاعات عشائرية
4- الحد من تصعيد اشتباكات العشائر العراقية: تحاول حكومة “السوداني” من خلال توسيع دور اللجنة الوطنية المعنية بحصر الأسلحة، احتواء النزاعات التي تصاعدت حدتها خلال السنوات الماضية، إذ إن العشائر خاصة بالمحافظات الجنوبية استحوذت بعد عام 2003 على أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة من ثكنات الجيش العراقي بعد انهياره جراء الغزو الأمريكي، وبات لديها مختلف أنواع الأسلحة الرشاشة أمريكية وإيرانية وأيضاً روسية، بجانب القذائف ومدافع الهاون والأسلحة القناصة وغيرها، ولذلك بين فترة وأخرى تتصاعد النزاعات بين العشائر لمحاولة كل منهم الاستحواذ وفرض الهيمنة وتسهم الأسلحة التي تمتلكها وتستخدمها هذه القوى المجتمعية في تصعيد النزاع مما يدفع بالأجهزة الأمنية العراقية للتدخل في أغلب الأحيان لاحتوائها والعمل على فضها عبر التصالح.
وقد تمكّنت الحكومة خلال السنوات الثلاث الماضية (2020-2023) بواسطة إجراءات قانونية وأمنية من فض وإنهاء أكثر من ستة آلاف نزاع عشائري، وهو ما كشفه مدير شؤون العشائر بوزارة الداخلية العراقية “عجمي الرماحي” في مارس الماضي. ونظراً لكون السلاح المنفلت سبباً في تصعيد النزاعات العشائرية، فقد أعلن وزير الداخلية العراقي في أبريل الماضي، عن “خطة أمنية” بالمحافظات الجنوبية تقضي بـ”تشكيل لجان استخباريّة لإلقاء القبض على كل شخص كان يحمل السلاح في النزاعات العشائرية، ومتابعة السلاح المنفلت في بعض المناطق”.
ضغوط واشنطن
5- استجابة عراقية لمطالب أمريكية بحصر السلاح بيد الدولة: إن الجهود المكثفة التي تقوم بها حكومة “السوداني” منذ مطلع العام 2023، الرامية لحصر السلاح بيد الدولة، تأتي في جزء منها استجابة لمطالب أمريكية، حيث سبق ودعا “ريتشارد ميلز” نائب المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة، خلال كلمته بمجلس الأمن، مطلع فبراير الماضي، رئيس الوزراء العراقي السوداني، للوفاء بالتزاماته بإجراءات “حصر السلاح بيد الدولة، كما أن بعض المصادر المطلعة كشفت لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية أواخر أغسطس 2020، بأن واشنطن قد اشترطت على العراق التخلص من قادة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة، كي تواصل تقديم الدعم العسكري لبلاد الرافدين، وفي ضوء ذلك فإن حكومة “السوداني” تسعى في الوقت ذاته، للحصول على دعم أمريكي بل ودولي لانجاح اجراءات حصر السلاح، حيث كشف بعض المراقبين بأن الحكومة العراقية لن تنجح في نزاع الأسلحة التي تمتلكها الفصائل المسلحة وخاصة التي تتفوق على فرق الشرطة العراقية إلا إذا حصلت على إسناد أمريكي ودولي في نزع أسلحة هذه الفصائل بالقوة والتهديد المباشر.
نجاح مشروط
خلاصة القول، إن نجاح حكومة “محمد شياع السوداني” في حصر السلاح المنفلت، يتوقف على جملة من العوامل، منها: العمل أولاً على معالجة أسباب فشل الحكومات السابقة في حل هذه الأزمة، والبدء من خلالها، ووضع استراتيجية رئيسية تركز على إصلاح الخلل أو الضعف الأمني بالأجهزة والمؤسسات العراقية المعنية بإحلال الأمن والاستقرار وتشديد القبضة الأمنية على الرافضين لتسليم الأسلحة، واتخاذ خطوة جادة نحو حل الفصائل المسلحة التي لا تستجيب لقرارات حصر السلاح، هذا بجانب التعاون مع شيوخ العشائر لتحقيق الهدف ذاته، بل وإدراك أن تدشين مكاتب لتسجيل الأسلحة ليس حلاً، نظراً لأن من يمتلك أكثر من قطعة قد يسجّل قطعة واحدة خوفاً من فقد كل ما لديه.
وعليه، فقد اقترح بعض الناشطين العراقيين على الحكومة أن يكون التسليم مقابل “مبالغ مادية” لتحفيز مالكي هذه الأسلحة على تسليمها، بجانب ذلك على الحكومة العراقية المضي قدماً في معالجة هذه الظاهرة من خلال الترويج لـ”ثقافة مجتمعية” تشجع على نبذ العنف والنزاعات، وفي ضوء ما تقدم فمن المتوقع أن تكثف الحكومة العراقية جهودها خلال الفترة المقبلة للعمل على حصر السلاح المنفلت وهو ما قد يؤدي إلى دخولها في مواجهة مع بعض الفصائل المسلحة، وفي هذه الحالة فإن الحكومة سيكون عليها فرض عقوبات صارمة على جميع القوى والأحزاب السياسية التي تُهدد المنظومة الأمنية للبلاد، وإلا فستفشل حكومة “السوداني” كغيرها في حل هذا “الملف المعقد”.