تمثل كارثة عاصفة دانيال التي تسببت في انهيار سدود درنة تحدياً جديداً أمام جهود تحقيق الاستقرار في ليبيا، إذ إن الكارثة كشفت عن عمق الأزمة السياسية، وخاصة بعد اتجاه بعض القوى السياسية إلى تسييس الكارثة وتوجية اللوم إلى الحكومة في شرق ليبيا لإهمالها صيانة السدود وتطوير البنية التحتية، كما كشفت عن استمرار الصراع الدولي حول ليبيا، ولا سيما مع اتجاه بعض الصحف المرتبطة بأجهزة غربية لتوظيف الكارثة إعلامياً في مهاجمة الحكومة في شرق ليبيا، كما كشفت الكارثة عن دلالة هامة ترتبط بتنامي التوجه نحو دبلوماسية الكوارث الطبيعية، ولا سيما بعد اتجاه العديد من الدول لتقديم مساعداتها لليبيا من أجل دعم قدراتها على تجاوز الأزمة.
في 18 سبتمبر الجاري، صرّح رئيس مجلس الدولة الليبي، محمد تكالة، بأن الصراعات الداخلية هي وراء ما وقع من خسائر، وكل ما تعانيه ليبيا من أزمات، مشيراً إلى ضرورة التزام الدولة بمبدأ المحاسبة وتحمل تبعات ما سيحدث. وهو ما يثير التساؤلات حول دلالات التعامل مع عاصفة دانيال على الصعيدين الخارجي والداخلي.
دلالات عديدة
ثمة دلالات عديدة يمكن قراءتها في ضوء التصريحات والتحركات السياسية للقوى الفاعلة الداخلية والخارجية على الساحة الليبية في طريقة التعامل مع عاصفة دانيال في ليبيا، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:
1- العمل على تسييس الكارثة بتوجيه القوى السياسية اتهامات لقوى شرق ليبيا: فبرغم أن انهيار سد درنة في الشرق جاء نتيجة عاصفة وفيضانات مدمرة اجتاحت المدينة ومحيطها، لكن يبدو أن بعض القوى السياسية قد استغلت الكارثة في توجيه اللوم والاتهامات السياسية لبعضها بعضاً، حيث تقع درنة ضمن مناطق الشرق الليبي الخاضعة لسيطرة قوات الجيش الليبي، ومع ذلك تشير بعض التقارير الى أن ولاء سكانها لحكومة الدبيبة في غرب ليبيا، ولذلك اتهمت القوى السياسية في غرب ليبيا قوى الشرق الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر بأنها هي التي تسببت في الكارثة بسبب تجاهل مشاكلها وإهمال الاستجابة لاحتياجات المدينة لتطوير البنية التحتية وصيانة السدود. وعبر تصريح مجلس الدولة الليبي عن اتهامات واضحة للقوى السياسية في الشرق الليبي ومسؤوليتها عما حدث. وبدلاً من أن تؤدي الكارثة إلى توحيد الصفوف السياسية فإنها كشفت عن عمق الأزمة الليبية، ومحاولة بعض الرموز في غرب ليبيا إثارة غضب سكان درنة ضد قوات الجيش الليبي.
2– التوظيف الإعلامي الغربي للكارثة لمنع تقديم المساعدات الإنسانية لشرق ليبيا: حيث اتهمت صحيفة “الغارديان” البريطانية المشير خليفة حفتر، الذي تسيطر قواته على شرق ليبيا، بأن أبناءه يستغلون المساعدات الإغاثية التي تتدفق إلى الشرق بعدما ضربها إعصار دانيال المُدمر، من أجل بسط نفوذهم، وذلك بدلاً من ضمان وصول المساعدات الحيوية إلى المدنيين. ونشرت الصحفية روث مايكلسون تقريراً حمل عنوان “أمير الحرب حفتر يستخدم الاستجابة لفيضانات ليبيا لبسط نفوذه”، وتقول عبره الكاتبة إنه مع استمرار فرق البحث والإنقاذ في البحث عن الجثث المحاصرة تحت الطين وأنقاض منازلهم في مدينة درنة الساحلية الليبية، فإن بعض الكتابات ترى أن “أمير الحرب” خليفة حفتر وأبناءه يستخدمون الاستجابة للكارثة وسيلة لممارسة السيطرة بدلاً من ضمان وصول المساعدات الإنسانية الحيوية إلى المدنيين. وتقول إن الفيضانات دمرت بالكامل ما يقرب من 900 مبنى في درنة، وفقاً لحكومة الوحدة الوطنية في البلاد، ومقرها مدينة طرابلس شمال غرب البلاد.
3– تنامي دور دبلوماسية الكوارث الطبيعية: حيث برز تضامن عدد من الدول إقليمياً ودولياً مع ليبيا في مواجهة آثار العاصفة “دانيال” التي تسببت في خسائر بشرية ومادية كبيرة، وقامت بعض الدول بتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية، وقد دعمت كل من مصر وتركيا، على وجه الخصوص، الطرفين المتنافسين الليبيين في شرق وغرب ليبيا، وقدم كل منهما المساعدة السياسية والأمنية للطرف الذي تدعمه منذ دخول وقف إطلاق النار عام 2020 حيز التنفيذ. وأرسلت مصر وفداً عسكرياً برئاسة رئيس الأركان الفريق أسامة عسكر لتنسيق عمليات الإغاثة. وفي المقابل، سارعت تركيا، التي تقدم الدعم السياسي والأمني لحكومة الوحدة الوطنية المتمركزة في الغرب، إلى نشر الهلال الأحمر التركي للعمل جنباً إلى جنب مع الهلال الأحمر الليبي. كما قدمت ثلاث طائرات شحن محملة بالإمدادات الطبية والإغاثية، وتقوم بإرسال سفينة لإنشاء مستشفيين ميدانيين.
ومن جهتها، أرسلت إيطاليا مواد إيواء وآليات ثقيلة وفرق إنقاذ مائية وطائرات هليكوبتر للإنقاذ. كما استجابت دول أخرى أيضاً بمساهمات كبيرة، بما في ذلك المملكة المتحدة وفرنسا وأعضاء آخرون في الاتحاد الأوروبي مثل إسبانيا وألمانيا ومالطة المجاورة، ودول إقليمية بما في ذلك الجزائر والأردن وتونس، ودول الخليج (السعودية، والإمارات، وقطر، والكويت). وتوجد على الأرض أيضاً وكالات الأمم المتحدة لتوزيع مواد الإغاثة الإنسانية.
مخاطر محتملة
ترتبط أزمة انهيار السدود في درنة بالعديد من المخاطر المحتملة على الصعيد الليبي، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:
1- زيادة حدة الخلافات السياسية وتأجيل الانتخابات في ليبيا، فقد تمتد حالة الاستقطاب السياسي في ليبيا إلى تأجيل الانتخابات المقرر عقدها خلال العام القادم 2024، وخاصة بعد تصاعد الخلافات وغياب التنسيق في إدارة الأزمة، وتضاربت الرؤى والتوجهات بين قطبي البلاد بشأن احتواء تداعيات الكارثة، ولا سيما مع إعلان كل حكومة بمفردها تخصيص مبالغ مالية لإعادة إعمار المناطق المنكوبة في الشرق. وبينما أعلن عبد الحميد الدبيبة أن حكومته تقيّم المساعدات الدولية لتحديد الضروري منها وضمان التنسيق، ناشد رئيس الحكومة في شرق ليبيا أسامة حماد المجتمع الدولي بتقديم المساعدات، وقال إن بلاده لا تملك الخبرة في التعامل مع الكارثة.
ويرى مراقبون أن كل طرف يريد أن يأخذ زمام المبادرة وأن يكون هو الأساس في قيادة جهود الإنقاذ، فالحكومتان بشرق البلاد وفي طرابلس تريدان أن تقودا كل المساعي بشكل منفرد، في تجاذب يلقي بظلاله الثقيلة جداً على جهود الإنقاذ، وهو الأمر الذي خلّف نوعاً من الفوضى في إدارة فرق الإنقاذ وصعّب حتى على أصحاب المبادرات الفردية الوصول إلى المناطق المنكوبة لتقديم المساعدات.
2– خطر التوظيف من جانب التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة، ولا سيما داعش، حيث يشير مراقبون إلى أن الموقف المعارض لمدينة درنة يرجع جزئياً إلى كونها مركزاً للمعارضة الإسلامية المتشددة، فبعد الإطاحة بنظام القذافي عام 2011، خضعت درنة مثل باقي المدن الليبية لسيطرة مليشيات وجماعات مسلحة، وكانت معقلاً لـ”كتيبة شهداء أبو سليم” التي أسسها عضو الجماعة الليبية المقاتلة السابق عبد الحكيم الحصادي. وفي عام 2014، بايع منشقون من “كتيبة شهداء أبو سليم” تنظيم (داعش) وسيطروا على المدينة.
3– احتمال تصاعد التمرد في درنة ضد حكومة شرق ليبيا، حيث تشير بعض الاتجاهات إلى المخاوف من أن يؤدي التسييس والتوظيف السياسي للكارثة إلى اندلاع تمرد يكون مصدره مدينة درنة، ولا سيما في ظل العلاقة المتوترة المستمرة بين سكان درنة وقوات شرق ليبيا، وخاصة منذ أن أرجأت السلطات في شرق البلاد الانتخابات البلدية المقررة بعد أنباء عن وقوع مواجهات بين نشطاء مؤيدين لحفتر ومعارضيهم. وقد تصاعدت المظاهرات بالفعل في المدينة والتي تطالب برحيل رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح ورئيس الحكومة أسامة حماد في الشرق الليبي.
تأجيج الأزمة
وفي المجمل، كشفت كارثة دانيال في ليبيا عن عمق الأزمة وحالة الانقسام والصراع بين الشرق والغرب في ليبيا، وبرغم توافق القوى السياسية في ليبيا على ضرورة عقد الانتخابات في موعدها، لكن يبدو أن الانتخابات وحدها لن تكون حلاً للأزمة الليبية بدون حدوث مصالحة سياسية بين الشرق والغرب، لذلك تنطوي سياسات التعامل مع الكارثة على العديد من المخاطر السياسية، ومن أهمها: زيادة حدة الخلافات السياسية وتأجيل الانتخابات في ليبيا، إذ تبدو ليبيا غير مهيأة سياسياً لعقد هذه الانتخابات في ظل حالة الانقسام الاجتماعي والسياسي الراهن، فضلاً عن خطر التوظيف من جانب التنظيمات الإرهابية، حيث تستغل التنظيمات الإرهابية غالباً الكوارث الطبيعية والصحية في تأجيج السكان، علاوة على خطر تصاعد التمرد في درنة، ولا سيما في ظل العلاقة المتوترة المستمرة بين سكان درنة وقوات الجيش الليبي.