سجل شهر سبتمبر الجاري أعلى معدل عمليات لتنظيم “داعش” في محافظة الأنبار، رغم عدم تسجيل عمليات خلال شهر أغسطس الفائت، ولكن يمكن فهم ذلك في سياق مواجهة العمليات العسكرية للجيش العراقي، إضافةً إلى محاولة الاحتفاظ بأحد أبرز معاقله التاريخية، وتأمين الحدود مع سوريا لاستمرار تدفق العناصر بين الجانبين، مع احتمالات الاتجاه إلى تخفيف الضغوط على عناصر خارج المحافظة، بتنفيذ عمليات مقصودة، لجذب الأنظار إلى الأنبار.
فعلى الرغم من التراجع الملحوظ في النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” في العراق، منذ مطلع العام الجاري، وفقاً لعدد من المؤشرات، من بينها إفادة القيادة المركزية الأمريكية خلال شهر أبريل الفائت بتراجع النشاط في العراق وسوريا، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023، على وقع عمليات مكافحة الإرهاب التي ينفذها الجيش العراق، وتحديداً عقب تحديث استراتيجيات وتكتيكات مكافحة الإرهاب، باستهداف الملاذات الآمنة للتنظيم؛ إلا أن التنظيم تمكّن من تسجيل قفزة في النشاط بمحافظة الأنبار.
سياقات حاكمة
يمكن النظر إلى عدد من السياقات الرئيسية بالنظر إلى النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” واستراتيجيات وتكتيكات التمرد المسلح، وأبرزها:
1- اتجاهات النشاط العملياتي جغرافياً: من خلال حصر عمليات التنظيم التي أعلن عنها خلال الفترة 1 يناير – 18 سبتمبر 2023، يتضح أن أعلى معدل للنشاط في محافظة الأنبار خلال الشهر الجاري، في حين كان أعلى معدل في المحافظة خلال شهر أبريل الفائت، بنحو 6 عمليات، وفقاً للمخطط التالي:
ويتضح من خلال معدل النشاط العملياتي في محافظة الأنبار، أن ثمة قفزة في معدل العمليات، بتسجيل 7 عمليات قبل نهاية شهر سبتمبر الجاري، مقارنة بعدم تسجيل عمليات للتنظيم خلال شهر أغسطس الفائت. وبشكل عام يتسم منحنى النشاط العملياتي للتنظيم في المحافظة بالتذبذب.
2- رمزية العراق كمركز للتنظيم: بغض النظر عن تراجع النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” في العراق منذ مطلع العام الجاري، مقارنة بالفترة نفسها من العام الفائت، فإن ثمة أبعاداً رمزية للعراق بالنسبة للتنظيم، كونه مركز التنظيم،وبالتالي فإنه لا يتوقع اختفاء تام للعمليات الإرهابية بغض النظر عن تقييمها وحدود تطور القدرات العملياتية وتراجع القدرات المالية بفعل تقلص مصادر التمويل، بعد فقدان مساحات واسعة من الأراضي التي كانت تحت سيطرته قبل عام 2017 في العراق.
وهنا، فإن التنظيم يظل متمسكاً بنشاط عملياتي في العراق، حتى لو كان رمزياً، في إطار المرحلة التي يمر بها التنظيم، والتي تشير بعض أدبيات دراسات التمرد المسلح إلى وصفها بـ”القتال من أجل البقاء”، بانتظار تحولات مستقبلية يمكن أن تساهم في استعادة التنظيم لنشاطه، بغض النظر عن تمكنه من ذلك.
3- احتفاظ التنظيم بقدرات بشرية: رغم تضارب أرقام أعداد مقاتلي تنظيم “داعش” بين العراق وسوريا، إذ تشيرتقارير وتقديرات دولية رسمية وغير رسمية إلى امتلاك تنظيم “داعش” بضعة آلاف من العناصر تحت سيطرته، موزعين بين العراق وسوريا،دون ترجيح توزيع تلك الأعداد بين الدولتين؛ فإن تقارير إعلامية عراقية تشير إلى أن التنظيم لا يزال يحتفظ بنحو 500 مقاتل في العراق وحده. ولكن بشكل عام فإن التنظيم لا يزال يمتلك قدرات بشرية قادرة على تنفيذ عمليات إرهابية.
ويمكن الإشارة إلى التحولات التي أدخلها التنظيم على هياكله التنظيمية خلال السنوات القليلة الفائتة، في إطار التكيف مع المتغيرات الميدانية التي شهدها العراق، على وجه الخصوص، بعد طرد عناصره من الموصل، إذ اتجه إلى تقسيم عناصره إلى مجموعات صغيرة العدد، والتحول إلى أحد أنماط عمليات التمرد المسلح، الذي يُعرف بـ”التمرد الريفي”، لتنفيذ عمليات في أكثر من نطاق جغرافي، في محاولة لإظهار قدرته على التماسك.
4- تصدير الضغوط خارج مناطق نفوذه: يميل تنظيم “داعش” إلى نقل المواجهات إلى خارج مناطق نفوذه، وتصدير الضغوط على القوات العسكرية إلى المناطق الآمنة، وهذا يفسر محاولات اتجاه النشاط العملياتي إلى العاصمة بغداد، وتحديداً شمالها، والمحافظات المجاورة، خاصة مع اتباع نمط “التمرد الريفي”، بما يسمح لعناصره التحرك بين حدود المحافظات دون لفت الأنظار، وتنفيذ هجمات عنيفة في الفراغات الأمنية.
ويبقى أنه ينتهج تكتيكاً دفاعياً في مواجهة القوات العسكرية التي تشارك في عمليات مكافحة الإرهاب، في نطاق معاقله الرئيسية، والاقتصار على التصدي لتلك الحملات، وامتصاص تلك الضربات، بخلاف الأنماط الهجومية في مناطق أخرى.
5- عدم تطور القدرات العملياتية لعناصر داعش: رغم تزايد معدل النشاط العملياتي في محافظة الأنبار منذ مطلع شهر سبتمبر، إلا أنه لا يعكس تطوراً في القدرات العملياتية لعناصر التنظيم، إذ ظلت في حدود هجمات على ثكنات صغيرة للجيش، أو دوريات، أو استهداف المدنيين، كما أن التنظيم اعتمد في عملياته على استخدام أسلحة بسيطة.
دوافع التصعيد
في ظلّ عدم إطلاق “القيادة المركزية” موجة عنف يمكن أن تفسِّر جانباً من استنفار مجموعات وتنفيذ عمليات إرهابية استجابة لهذه الدعوات، فإن ثمة عدداً من الدوافع لتركيز التنظيم نشاطه العملياتي في نطاق محافظة الأنبار منذ مطلع شهر سبتمبر الجاري، وأبرزها:
1- مواجهة عمليات الجيش العراقي في الأنبار: منذ مطلع شهر سبتمبر الجاري، أقدم الجيش العراقي على تنفيذ عملية أمنية في محافظة الأنبار، في إطار تنفيذ استراتيجية استهداف الملاذات الآمنة، سواء بعمليات قصف جوي، أو عمليات ميدانية.
فخلال 3 سبتمبر الجاري، أعلنت قيادة العمليات المشتركة تنفيذ عملية استباقية على أوكار تنظيم “داعش” في أكثر من نطاق جغرافي، في الأنبار وبغداد وكربلاء، وفقاً للمتحدث باسم القيادة المشتركة اللواء تحسين الخفاجي.
ويمكن تفسير تزايد معدل النشاط العملياتي للتنظيم في محافظة الأنبار، في إطار التصدي لعمليات الجيش العراقي.
2- الدفاع عن أحد معاقله التاريخية: بعيداً عن ارتباط تزايد النشاط العملياتي بالتصدي لحملات الجيش العراقي، فإنمحافظة الأنبار تعد أحد المعاقل التاريخية الرئيسية للتنظيم، نظراً للطبيعة الديموغرافية والجغرافية للمحافظة، وربما المعقل الأخير، خاصة مع تراجع النشاط العملياتي في نطاق محافظة ديالى، وشمال بغداد، بعد عمليات الجيش العراقي، وملاحقة عناصر التنظيم في المناطق الجبلية الوعرة، ورفع التنسيق الأمني مع عناصر “البيشمركة” في إقليم كردستان العراق، لسد الثغرات الأمنية بين المحافظات.
ومع ذلك، لا يتضح أن التنظيم أقدم على تحويل العمليات إلى مواجهات مفتوحة مع الجيش العراقي، حرصاً على عدم استنزاف قدراته، سواء البشرية أو التسليحية، وهنا تبرز محاولة التنظيم توصيل رسالة بقدرته على المواجهة.
3- تأمين الحدود المشتركة مع سوريا: تمثل محافظة الأنبار أهمية استراتيجية بالنسبة لتنظيم “داعش”، إذ إنها على الحدود مع سوريا، وبالتالي فإن تأمين وجوده في المحافظة والتصدي لمحاولات تصفية عناصره من شأنه أن يحافظ على أمل الاستفادة من عناصره وأسرهم في المخيمات والسجون في شمال شرقي سوريا، خاصة مع الرغبة في تحريرهم، كما حدث في سجن غويران سابقاً، إضافة إلى محاولات تحرير بعضهم من مقرات احتجاز في الرقة خلال العام الجاري.
كما أن تأمين الوجود في محافظة الأنبار من شأنه أن يحافظ على عملية انتقال العناصر بين حدود الدولتين، بغض النظر عن إجراءات التأمين على جانبي الحدود، خاصة مع محاولات التنسيق العراقي مع عناصر “قسد”، والانفتاح على التعاون الأمني، لمواجهة تهديدات تنظيم “داعش”.
4- تخفيض الضغوط على مجموعاته خارج الأنبار: قد يرتبط تصعيد النشاط العملياتي في الأنبار بتكتيكات خاصة، في محاولة لتخفيف الضغوط على مجموعات وعناصر التنظيم خارج المحافظة خلال الفترة الحالية، مع استمرار عمليات مكافحة الإرهاب، التي ينفذها الجيش العراقي، بالتعاون مع عناصر الحشد الشعبي.
وتستمر عمليات الجيش العراقي ولكن مع نهج استباقي، اعتماداً على تنشيط الجهد الاستخباراتي والأمني لتحديد ملاذات التنظيم وتحركاته بين المحافظات، فضلاً عن اتجاه إلى تسليم مسؤولية المناطق المحررة إلى وزارة الداخلية، وتركيز الجيش على تأمين تلك المناطق من خارجها، بما قد يؤدي إلى تكثيف العمليات الاستباقية، وعدم اتّباع نهج دفاعي ضد عناصر التنظيم داخل تلك المناطق المحررة.
تراجع متوقّع
بالنظر إلى السياقات الحاكمة للنشاط العملياتي لتنظيم “داعش” في العراق خلال العامين الفائتين تحديداً، وتذبذب معدل النشاط العملياتي، فإن تراجع العمليات في محافظة الأنبار متوقعٌ، خاصة أن السمة الرئيسية للتنظيم عدم القدرة على مواصلة النشاط العملياتي على الوتيرة نفسها.
ولكن يظل تنظيم “داعش” يمثل تهديداً، خاصة مع إمكانية التوسع في استهداف المدنيين، خاصة مع إعلانه عن استهداف اثنين بدعوى تعاونهم من الجيش، فضلاً عن استهداف مواقع للمدنيين في محافظة الأنبار، ربما كمحاولة لتصدير الضغوط على الحكومة العراقية خلال الفترة المقبلة، في ظل عدم القدرة على تطوير القدرات العملياتية.