مع إعلان انقلاب عسكري في النيجر أطيح رئيس البلاد وقطعت العلاقات مع فرنسا وهدد بقطعها مع أي دولة تسعى إلى استهداف “القيادة الجديدة”. في المقابل، دعت فرنسا شركاءها الأوروبيين والأفارقة إلى إنذار “الانقلابيين” بالتراجع، وإلا سيتم تشكيل قوة من غرب أفريقيا للتدخل في النيجر. وأعلنت بوركينا فاسو ومالي تضامنهما مع القيادة الجديدة في نيامي بوجه باريس ودول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريفيا (إيكواس) التي تضم معظم دول شرق أفريقيا.
في خضم هذه التطورات، تبرز مجموعة “فاغنر” الأمنية كلاعب مهم في تلك المنطقة من مالي وبوركينا فاسو إلى جمهورية أفريقيا الوسطى وإلى النيجر، حيث دعت قادة الانقلاب فيها المجموعة للتدخل داخل حدودها، لذا فكل هذه الرياح المتفجرة من كل حدب وصوب تنذر بانفجار عاصفة صحراوية في بلاد الساحل قد تفرض تدخلاً غربياً أميركياً سيقابله تدخل شرقي روسي. فلنستعرض بعض أبعاد هذه الأزمة المتعاظمة.
أزمات دول الساحل
هذه الدول كانت – ولا تزال – تعاني أزمات اجتماعية واقتصادية وأمنية عميقة. فالنخب التي حكمتها كدست الثروات بين يديها ولم تطلق إصلاحات كفيلة بإنعاش مجتمعاتهم، مما وضع شعوب هذه الدول بمواجهة تحدٍ كبير تمثل في هجرة واسعة عبر المتوسط إلى أوروبا مخلفة آثاراً نفسية حادة داخل تلك المجتمعات من ناحية، وصعود المجموعات الإسلاموية المقاتلة عبر الصحراء. فتشكل تيار قوموي، لا سيما عند العسكريين، يحمل مسؤولية الانهيارات للفرنسيين والأوروبيين، ويتهم الغرب بالاستفادة المالية وبالتراخي مع المتطرفين.
هذا التيار وجد نفسه قريباً من السياسة الروسية المواجهة للغرب والمقاتلة ضد التكفيريين. وقد أنتج التيار القومي الأفريقي أربعة أنظمة عسكرية في مالي وبوركينا فاىسو والنيجر، وقبل ذلك في جمهورية أفريقيا الوسطى، تتجه تدريجاً إلى تشكيل كتلة ساحلية مؤيدة لروسيا ومحورها ومعارضة للغرب. وتعمل “فاغنر” وحلفاؤها على مشاريع تأثير في دول أخرى.
توسع “فاغنر” في الإقليم
مجموعة “فاغنر” التي أقدمت على حركة تمرد استعراضية داخل روسيا في يونيو (حزيران)، وانتقلت قيادتها إلى بيلاروس واقتربت وحداتها من الحدود البولندية، تجد نفسها الآن في عمق أفريقيا وفي قلب الساحل كذراع دولية للكرملين، لا سيما في القارة السمراء.
وتوصلت “فاغنر” عبر استراتيجيتها القارية إلى أن تدخل إلى السياسات الأفريقية وتربط حبالها مع حركات معارضة أو مع حكومات في أماكن عدة. فإضافة إلى الدول الأربع في الساحل وتخومه، فلدى المجموعة صداقات وتأثير في إثيوبيا ومدغشقر وجنوب السودان وجنوب أفريقيا، وغيرها. وقد تسعى المجموعة إلى إيجاد طريق لدخول موريتانيا و”الصحراء الغربية”، هذا عدا مجموعات محدودة دخلت ليبيا لمقاتلة الميليشيات الداعشية والشبيهة.
وكما هو معروف فإن موسكو تسعى إلى إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع دول كانت قريبة من الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة كالجزائر وموزمبيق وزيمبابوي، ولكن السياسة الروسية تبقي مسافة مع “فاغنر” كي لا يختلط الحابل بالنابل. ومن أهم الساحات، حيث ينتظر أن تلعب “فاغنر” دوراً أكبر في السودان، حيث التعاون بينها وبين “التدخل السريع” بات شبه علني.
الغرب يعبئ
من ناحيتها، بدأت فرنسا بالتعبئة فوراً داخل أفريقيا بعدما “خسرت” أربع دول كانت شريكة لها هي مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، وأخيراً النيجر، وخسرتها لروسيا اقتصادياً وأمنياً.
نجحت باريس في الحصول على دعم “إيكواس” ومعظم دول شرق أفريقيا بين السنغال والتشاد، خصوصاً المارد الإقليمي نيجيريا. والخطة بعد إنذار “الانقلابيين” هي تشكيل قوة أفريقية متعددة الجنسيات للتدخل في النيجر.
فرنسا بدورها رفعت الملف إلى الاتحاد الأوروبي الذي بات يجد نفسه يواجه الضغط الروسي من الشرق، والآن من جنوب المتوسط في أفريقيا. وحصلت على تأييد شكلي من الاتحاد الأوروبي في بروكسل. وأخيراً تواصل فريق الرئيس ماكرون مع إدارة بايدن ونجح في إقناعها بضرورة التكاتف لوقف تقدم “فاغنر” في الساحل.
ولكن الأمور ليست سهلة. فدول شرق أفريقيا لديها مشكلات داخلية معقدة وتخشى الدخول في أزمات طويلة إذا فشلت حملة النيجر. والدول الأوروبية تريد دعم فرنسا في هذا الملف، ولكنها تخشى تعاظم قضايا اللاجئين وانتشار الإرهاب، كما أنها لا تريد تصعيد المواجهة مع روسيا. وبعض تلك الحكومات كالإيطالية والهنغارية لا تريد تدخلات أوروبية داخل القارة الأفريقية.
أما إدارة بايدن فهي غير متأكدة أي طريق ستسلك، فالوضع الداخلي الأميركي في أقصى انقسامه، واقتراب السنة الانتخابية بات يضع ضغطاً على قرارات السياسة الخارجية. الغرب يعبئ، ولكنه ليس واضحاً حول أي استراتيجية، علماً أن تحليلاً يشير أيضاً إلى احتمال دعم غربي لمجموعات مسلحة لقتال “فاغنر” عبر الساحل.
العامل الإيراني
إضافة إلى قيام محاور دولية في منطقة الساحل تبرز مؤشرات على دخول “الجمهورية الإسلامية” على خط الصحراء الكبرى وشرق أفريقيا. وتشير التقارير إلى تهيئة قوة القدس للانتشار في النيجر بموازاة “فاغنر”، وتحليلات تنتظر تدخل الحرس الثوري (الباسدران) على “خط مواجهة الغرب في غرب أفريقيا”، لا سيما في الدول التي سيطرت عليها الانقلابات العسكرية، مما يعني صعود احتمال تصادم إيراني مع حلفاء فرنسا والولايات المتحدة في أفريقيا، وربما جر الروس إلى الاشتباك مع “الناتو” في الساحل والقرن الأفريقيين، إذ إن طهران يهمها الانشطار الدولي التام ليتمكن نظامها من الخروج من العقوبات وتعميق سيطرتها في الشرق الأوسط الكبير. وليست أزمتا النيجر والسودان إلا نوافذ مفتوحة أمام الخمينيين للإنزال في القارة الأفريقية. ولن يتعجب أحد إذا دخلت إسرائيل على الخط القاري عبر أصدقائها العديدين، وبدأت في تسليحهم أيضاً لمواجهة “المحور”.
واشنطن المتأنية
الإدارة حالياً في أدق وضع ممكن قبل الغوص كلياً في سنة الانتخابات الرئاسية بعد بضعة أشهر، وهي بالتالى مترددة في خوض حرب “إنقاذ حكومات” في أفريقيا، إلا إذا شعرت بأن عدم إطلاق عملية سيؤدي إلى تهديد مباشر للأمن القومي الأميركي، وهذا تقييم لم يحصل حتى الآن.
استراتيجياً ستتأثر الولايات المتحدة للغاية إذا توسعت الكتلة المؤيدة لروسيا وإيران في الساحل، وقد تتأثر من النظام الإيراني أكثر من الكرملين. فالروس ثقافياً غرباء في العالم العربي الإسلامي، ووجودهم عسكري سطحي، بينما الخمينيون إسلاميون وسيسعون فوراً إلى زرع الخمينية عبر “التشييع المتطرف”، كما حاولوا أن يفعلوا في نيجيريا والمغرب من قبل.
إذا زرع “الباسدران” جاليات خمينية في دول أفريقية عدة، عندها سيتحول الصراع إلى أعمق من وجود خارجي، بالتالي فعلى واشنطن أن تقوم بخطوات قبل أن تفقد السيطرة على الأمور، ولكن على الأجهزة الأميركية ألا تكرر أخطاءها السابقة في سوريا وشمال أفريقيا، أي استعمال الإسلاميين ضد خصوم واشنطن، فيتحولون إلى أنظمة ديكتاتورية أو ميليشيات إرهابية أخطر من القوى الاستبدادية.
فالبيروقراطية قد تلجأ إلى دعم التيارات الإخوانية المسلحة لمواجهة “فاغنر”، وهذا خطأ استراتيجي، لأن الحليف الطبيعي الوحيد الذي يجب اعتماده هو المجتمعات المدنية، والمسلمين الإصلاحيين، وقوى الاعتدال. إلا أن عامل الوقت وسرعته في تطورات الساحل قد يخلط الحابل بالنابل، لا سيما أن رجرجات الداخل الأميركي في تصاعد. سنرى.
نقلا عن اندبندنت عربية