الأزمات المالية العربية.. وسبل الخروج منها – الحائط العربي
الأزمات المالية العربية.. وسبل الخروج منها

الأزمات المالية العربية.. وسبل الخروج منها



فى ثمانينيات القرن الماضى، شهدت بلدان عربية عديدة سوية أزمات مالية واقتصادية خانقة، أهم ظواهرها كان عجزا كبيرا مستمرا لميزان المدفوعات الخارجية وتخطى مديونية الدول عتبات غير قابلة للاستدامة وارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير. تزامن ذلك «الانهيار» مع «الصدمة النفطية المضادة» حيث انخفضت أسعار النفط بالقيمة الحقيقية إلى ما قبل صدمتى 1973 (حرب تشرين/أكتوبر) و1979 («الثورة» الإيرانية). لكن السبب الرئيسى كمُنَ فى فشل السلطات القائمة فى التأقلم مع المتغيرات الدولية الاقتصادية والمالية المتسارعة.
وبالطبع كان لتلك الأزمات تبعاتها السياسية على البلدان المعنية وجوارها، حتّى وإن لم تكن بحجم ما حدث للاتحاد السوفيتى الذى انهار وتفكك مع انهيار سور برلين. أو لم يكُن بحجم غزو العراق للكويت، بسبب ديونه لدول الخليج، وحرب الخليج الأولى عام 1991 وخضوع العراق للحصار عقدا كاملا قبل غزوه فى 2003.
لقد انهارت آنذاك تباعا بورصات لندن ثم نيويورك، وحدثت كارثة تشرنوبيل. كما اندلعت حرب أهلية فى اليمن، وقصفت الولايات المتحدة ليبيا، ودخل الجيش الإيرانى إلى كردستان العراق، وعزل زين العابدين بن على الحبيب بورقيبة، وأُعيدت مصر للجامعة العربية، وحدثت الانتفاضة الأولى فى فلسطين، وانطلقت الاضطرابات فى الجزائر على خلفية إجراءات التقشف لتأخذها إلى «حرب أهلية» دامت عقدا كاملا.
لقد توقف حينها تدفق الأموال إلى لبنان الغارق فى حربه الأهلية، فانهارت الليرة اللبنانية آلافا مضاعفة. ما أسس لـ«اتفاق الطائف» الذى نصّب «أمراء الحرب» على «التعافى»، كى يبدد هؤلاء خلال عقد أو عقدين كل الدعم الملحوظ الذى حصل عليه من الشعب اللبنانى ومن الخارج وينتهى بأحد أكبر الأزمات المالية التى عرفها العالم. كما أفلست سوريا وتوقفت عن سداد ديونها، وانهارت الليرة السورية بشكل متزامن مع الليرة اللبنانية. ولم يتم إخراج البلاد حينها من الانهيار سوى وقوف حافظ الأسد مع تحالف حرب الكويت واكتشاف النفط فى دير الزور والانفتاح على القطاع الخاص ومشاريع تحقيق الأمن الغذائى.
ولم يأتِ حل إشكالية الدين الخارجى لمصر سوى عبر إجراء استثنائى من الولايات المتحدة، كانت كلفته انخراط مصر فى حرب الخليج الأولى. أما الأردن الذى وقف حياديا لحاجته للنفط العراقى وتحمل عبء لجوء الفلسطينيين والأردنيين من الكويت إليه فقد عوقب ولم تحل مشكلة ديونه الخارجية سوى فى نهاية التسعينيات.
بالموازاة مع ذلك، عرفت أوروبا الغربية أيضا أزماتها النسبية فى تلك الأيام. مما دفعها إلى تأسيس الاتحاد الأوروبى عام 1991. وكى تحل أزماتها توجهت للتوسع شرقا وضم دول النفوذ السوفيتى السابق والهيمنة على اقتصاداتها بعد ضخّ الأموال فيها، مهملة التوجه جنوبا نحو جاراتها العربية، شريكتها التاريخية فى البحر المتوسط، رغم أن مخاطر تدفق لجوء أبناء هذا الجنوب إليها، اقتصاديا وسياسيا، كانت حقيقية وماثلة.
• • •
اليوم وبعد أربعة عقود على تلك التطورات، تعود بلدان عربية عديدة لتشهد سوية أزمات مالية واقتصادية خانقة. وبالطبع هناك أسباب عالمية لهذه الأزمات، انطلاقا من جائحة كورونا وحرب أوكرانيا وأثرها على أسعار الحبوب والسماد. هذا رغم أن الولايات المتحدة وأوروبا احتوت أزماتها الأخيرة بشكل أفضل منه فى الثمانينيات.
بالمقابل، ترزح تونس تحت أزمة ميزان مدفوعات خارجية رغم أن صادرات هذا البلد هى من الأعلى نسبيا فى العالم مقارنة مع ناتجه المحلى الإجمالى. المشكلة تكمُن فى ضعف سلسلة الإنتاج للاستهلاك المحلى، وكذلك المصارف، وعدم كفاية الصادرات لتغطية الواردات، بما فيها القمح، خاصة مع الظروف المناخية السيئة التى تعيشها. وقد تم فقدان فرصة الإصلاحات الهيكلية فى السنوات الأولى لـ«ثورة» 2011 قبل أن يأخذ التنافس السياسى بين «النهضة» والآخرين، ومن ورائهما قوى خارجية، إلى عجز لمؤسسات الدولة ودين عام تخطى القدرة على الاحتمال. وحده تخوف أوروبا من تدفق اللاجئين واللاجئات من أفريقيا عبر تونس (وليبيا) يساعد فى تثبيت الأوضاع فيها ولو مرحليا.
مصر أيضا تعرف أزمة ميزان مدفوعات خارجية، رغم ريع قناة السويس ووفرة الغاز وإيرادات السياحة والدعم المالى من الولايات المتحدة. لكن جمود الإصلاحات بين 2011 و2013، تبعه مشاريع بنى تحتية ضخمة وطموحة بقيادة مؤسسة الجيش. رغم أن تلك المشاريع تؤسس للمستقبل، إلا أن وتيرتها وحجم التزاماتها فى ظل المتغيرات العالمية، خاصة لجهة الخروج المتسارع لـ«رءوس الأموال الساخنة» (أى الأموال الخارجية التى تبحث فقط عن عائد مادى أكبر فى الدول النامية منه فى الدول المتقدّمة) باتت تضع البلاد أمام تحديات حقيقية. ولافت أن تبدأ شبكات وموجات لجوء من مصر نحو أوروبا.
أما فى لبنان، فالأزمة خانقة أكثر. لقد بات واضحا اليوم أن الولايات المتحدة وأوروبا كانتا تعرفان منذ 2001 وخاصة فى 2016 أن نموذج الاقتصادى المالى الذى بنيت عليه البلاد بعد الخروج من حربه الأهلية ذاهب للانهيار. بل تدخلت (فرنسا والولايات المتحدة بشكل أساسى) كى يضع صندوق النقد الدولى «النقاط على الحروف» فى 2016 لتأخير الانهيار حتى أكتوبر 2019 ولكى يتمّ حينها وقف الإطراء بـ«إنجازات» حاكم مصرف لبنان «الاستثنائية». ذلك كى يتمكن «أمراء الحرب» من تهريب أموالهم قبل الانهيار وقبل «تبخر» ودائع المواطنين اللبنانيين وصناديقهم للتأمين الصحى وضمان الشيخوخة، وكذلك ودائع مدخرات السوريين وغيرهم من العراقيين، ورجال أعمالهم الصغار… وتكمُن الإشكالية الأساسية اليوم، فى أن من كان وراء الانهيار هو الذى يُفتَرض أن يعمل على حلّه، داخليا فى ظل نظام انتخابى «ديموقراطى» غارق بالمال السياسى وبالتجاذبات الطائفية ومع تداعى أجهزة الدولة بما فيها الأجهزة العسكرية والأمنية، وخارجيا من قبل نفس الجهات التى أخذت إلى أن يكون حجم الانهيار كبيرا إلى هذا الحد.
هذا دون التطرّق إلى البلدان التى ما زالت تعيش صراعات أهلية، كاليمن وليبيا والسودان والعراق، و/أو ما زالت تخضع لإجراءات أحادية (عقوبات) أدت إلى تدمير إنتاجها ونشر الفقر فيها بشكل كبير، كسوريا. وأيضا دون التطرق إلى دول الخليج التى باتت فى منطق يخصها وحدها، ربما كى تحمى نفسها من الاضطرابات العالمية، ولكن لم يبقَ من «التضامن العربى» الذى كان سائدا فى القرن الماضى سوى بعض الشكليات، ومنها الجامعة العربية وكذلك صندوق النقد العربى، الذى يظل التساؤل قائما عن الدور الذى يلعبه أو كان يُمكِن أن يلعبه؟
• • •
بالتأكيد لن يكون من السهل على أى من الدول العربية اليوم أن تتعامل مع موروثات الاقتصاد ــ السياسى التى قامت فيها منذ عقود للنهوض باقتصادياتها وللتعامل مع الأزمات العالمية وتداعياتها. ويبقى نجاح أى من الدول العربيّة فى لعب دور قوة اقتصادية وازنة، كما فعلت تركيا من جانبها، مصدر فخر وركيزة لكل العرب. لكن التساؤل يبقى، نظرا لما بين البلاد العربية من ترابط اجتماعى وسياسى فى الواقع، هل يُمكِن لإحدى هذه الدول العربية النهوض دون غيرها… أو رغم غيرها؟

نقلا عن الشروق