يمكن تفسير أسباب تزايد الجدل حول عودة شرطة الأخلاق من جديد لممارسة مهامها داخل إيران في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في محاولات النظام الإيراني استباق حلول الذكرى الأولى لوفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني في منتصف سبتمبر القادم، واستمرار تبني النظام نظرية المؤامرة القائمة على وجود مخطط خارجي لتقويض دعائمه، وتراجع التفاهمات مع واشنطن حول الملف النووي والدور الإقليمي، والضغوط القوية التي يمارسها التيار المتشدد لفرض قيود اجتماعية أشد داخل إيران.
قبل نحو أقل من شهرين على حلول الذكرى الأولى لوفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني في 15 سبتمبر الماضي، تصاعد الجدل مرة أخرى داخل إيران حول عودة شرطة الأخلاق من جديد للتواجد في الشارع ومساءلة النساء، وربما اعتقالهن، بسبب عدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب. إذ أعلن سعيد منتظر المهدي، في 16 يوليو 2023، أن دوريات الشرطة سوف تبدأ في تنبيه الأشخاص الذين يرتدون لباساً لا يحترم الأخلاق وستتم إحالتهم للقضاء في حالة اعتراضهم. ورغم أنّه لم يذكر “شرطة الأخلاق” بالاسم، والتي أعلن المدعي العام محمد جعفر منتظري في 4 ديسمبر الماضي حلها، فضلاً عن أن مساعدة الرئيس لشؤون المرأة والأسرة أنسية خزعلي نفت الأنباء التي أشارت إلى أن هذه الخطوة اتُّخذت بأمر من الرئيس؛ إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي شهدت انتشاراً كثيفاً لصور تُظهر نساء يرتدين التشادور ويقمن باعتراض ومساءلة فتيات غير محجبات في الشارع. ويعني ذلك أن الجدل سوف يتواصل حول ما إذا كانت شرطة الأخلاق ستعود بنفس الاسم والمهام، أم أن هذه المهام سوف توكل إلى شرطة الأمن العام في النهاية.
أسباب عديدة
يمكن تفسير تصاعد الجدل حول عودة شرطة الأخلاق إلى ممارسة مهامها من جديد داخل إيران في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استباق احتجاجات الذكرى الأولى لوفاة مهسا أميني: لا يبدو أن النظام الإيراني يستبعد عودة الاحتجاجات مرة أخرى مع حلول الذكرى الأولى لوفاة مهسا أميني. فرغم أن القيود الشديدة التي فرضها النظام نجحت، بعد نحو خمسة أشهر من اندلاع الاحتجاجات الأولى، في احتواء هذه الاحتجاجات؛ إلا أن ذلك لم يدفع السلطات إلى استبعاد تجددها مرة أخرى، خاصةً أن المحفزات الحقيقية لاندلاعها ما زالت قائمة، سواء فيما يتعلق باستمرار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، أو فيما يتصل بتصاعد المشكلات الناجمة عن التعامل العنيف من جانب السلطات مع المحتجين، حيث تم اعتقال أكثر من عشرين ألف محتج، فيما تم إعدام 5 أشخاص.
ومن هنا، فإن إعادة شرطة الأخلاق لممارسة مهامها من جديد معناه أن النظام يسعى إلى توجيه رسائل استباقية لتحذير المواطنين من مغبة محاولة تجديد الاحتجاجات مرة أخرى، خلال حلول الذكرى الأولى، حيث إن تعامله ربما يكون أكثر شدة وعنفاً من الاحتجاجات الأولى التي شهدتها إيران بداية من منتصف سبتمبر 2022.
2- استمرار تبني نظرية المؤامرة في تفسير الاحتجاجات الداخلية: ما زال النظام الإيراني يرى أن نجاحه “المتأخر” في احتواء الاحتجاجات التي أعقبت وفاة مهسا أميني، لم يدفع بعض القوى الخارجية إلى التوقف عن محاولة تهديد استقراره وبقائه في السلطة، عبر التواصل مع نخب داخلية وخارجية معارضة لها. ومن هنا، فإنه يرى أن هذه القوى سوف تتحين الفرصة من جديد لإعادة تأجيج الأوضاع الداخلية عبر دعم الاحتجاجات التي يمكن أن تندلع في إيران بالتزامن مع حلول الذكرى الأولى لوفاة مهسا أميني. وقد كان لافتاً أن إيران بدأت في اتخاذ إجراءات تؤكد من خلالها أنها لن تتوانى عن التعامل بقوة مع المعارضة الخارجية التي ترى أنها تحاول التواصل مع مؤيدين لها في الداخل من أجل العمل على إعادة نشر الفوضى داخل إيران.
إذ وجه رئيس هيئة الأركان الإيرانية محمد باقري، في 11 يوليو الجاري، تحذيراً إلى السلطات العراقية بأنه في حالة ما إذا لم تتخذ إجراءات ضد الجماعات المعارضة الكردية المسلحة في شمال العراق، فإن إيران سوف تتدخل عسكرياً مجدداً في تلك المناطق، خاصة أنها ترى أن هذه الجماعات، ولا سيما الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، كان لها دور في تهريب أسلحة إلى داخل إيران خلال فترة اندلاع الاحتجاجات من أجل العمل على إنهاء بقاء النظام في الحكم.
3- تراجع فرص الصفقة النووية مع الغرب: لا يمكن استبعاد أن تكون إيران قد ربطت من البداية بين التفاهمات مع الدول الغربية واندلاع الاحتجاجات الداخلية. فهي في الأساس اعتبرت أن هذه الاحتجاجات كانت عبارة عن مخطط خارجي تدعمه مجموعات محلية ومعارضة خارجية لتقويض دعائم النظام الحاكم. لكن القيادة الحاكمة في إيران ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية اعتبرت أن النجاح في تجاوز هذه الأزمة، حتى وإن طالت مقارنة بالأزمات السابقة، عزز موقف إيران في مواجهة الضغوط الغربية، ودفع الدول الغربية مجدداً، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى العودة إلى طاولة المفاوضات من أجل الوصول إلى تفاهمات أوسع نطاقاً من الاتفاق النووي، تتضمن توقف إيران والمليشيات الموالية لها عن استهداف القوات الأمريكية في العراق وسوريا.
ووفقاً لهذه الرؤية، فإن واشنطن عادت إلى المفاوضات، التي أجريت في مسقط ونيويورك، بعد أن تأكدت من أن التهديد الموجه للنظام عبر الاحتجاجات لم يصل إلى هدفه في النهاية، وهو إسقاط هذا النظام أو على الأقل إضعافه بشكل يمكن أن يؤدي إلى انتزاع تنازلات منه. ومن هنا، فإنه عندما تفشل التفاهمات أو تتراجع احتمالاتها على الأقل في المرحلة الحالية، فإنه من المنطقي، وفقاً للرؤية نفسها، أن تعود الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى، وربما إسرائيل، إلى الخيار الأول وهو محاولة تأجيج الأوضاع الداخلية مجدداً ربما بشكل أكثر قوة على نحو قد يدفع النظام إلى الوصول إلى صفقة بغية تجنب خطر السقوط. وانطلاقاً من ذلك، فإن النظام ربما يرى في الوقت الحالي أن العودة إلى فرض قيود شديدة على الحجاب والملبس بشكل عام، سوف يكون أفضل استعداد في رؤيته لأي سيناريو جديد خاص بتجدد الاحتجاجات الداخلية خلال الفترة القادمة.
4- ضغوط قوى التيار الأصولي في الداخل الإيراني: ربما يمكن القول إن ثمة قوى داخلية تمارس ضغوطاً من أجل العودة إلى فرض قيود شديدة على الصعيد الاجتماعي تحديداً. وفي رؤيتها، فإن فرض هذه القواعد يمثل أحد الأركان الرئيسية التي يعتمد عليها النظام الإيراني، وبالتالي فإن ضعفها أو تراجع العمل بها يعني إضعاف النظام نفسه وتآكل البنية الأيديولوجية التي يعتمد عليها في الأساس. ويبدو أن هذه القوى ترى في المرحلة الحالية أن هناك توجهاً مناوئاً لدى الشارع الإيراني تجاه الالتزام بالقواعد المعمول بها فيما يتعلق بالحجاب، من أجل تحدي السلطة القائمة، ومن ثم فإن هذه القوى ترى أن عودة شرطة الأخلاق إلى الشارع كفيلة بإعادة فرض هذه القواعد ومحاصرة الاتجاه المناوئ لها من أجل إضعافه. ويمثل هذه القوى بعض المسؤولين الكبار في جهاز الشرطة والحرس الثوري، مثل قائد الشرطة أحمد رضا رادان، وقائد الحرس الثوري حسين سلامي، إلى جانب رئيس هيئة الأركان في القوات المسلحة محمد باقري.
اختبار محتمل
في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن مجمل هذه الخطوات التي يتخذها النظام الإيراني تطرح دلالة رئيسية تتمثل في أنه ما زال يرى أن الأزمة السياسية التي أنتجتها الاحتجاجات ما زالت قائمة رغم نجاحه في النهاية في احتوائها وإضعافها. ويعود ذلك في المقام الأول إلى استمرار محفزاتها الاقتصادية والاجتماعية. وهنا، فإن الذكرى الأولى لوفاة مهسا أميني التي ستحل بعد أقل من شهرين من الآن سوف تشكل محور اختبار مهم للمقاربة الحالية التي يتبناها النظام، وما إذا كان سينجح عبرها في فرض رؤيته أم سيواجه احتجاجات جديدة خلال المرحلة القادمة.