شهدت مدينة سان بطرسبرج انعقاد القمة الروسية-الأفريقية الثانية على مدى يومي 27 و28 يوليو الجاري. وقد كان لافتاً أن انعقاد القمة جاء بعد قرار موسكو، في 17 من الشهر نفسه، بالانسحاب من صفقة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، حيث أعربت عن عدم رضاها عن ترتيبات تصدير الحبوب والأسمدة الروسية، وهي الصفقة التي سمحت لأوكرانيا بتصدير الحبوب من موانئها على البحر الأسود، فيما اتجهت موسكو إلى إطلاق صواريخ على ميناء أوديسا الأوكراني، حيث يتم تخزين الحبوب.
وقد أثارت هذه الإجراءات الروسية قلقاً أفريقياً متزايداً بشأن تداعيات هذه السياسة على الأمن الغذائي وأسعار الغذاء في الدول الأفريقية. فعلى سبيل المثال، وصف كورير سينج أوي كبير المسئولين في وزارة الخارجية الكينية، انسحاب موسكو من الاتفاقية بأنه “طعنة في الظهر”، حيث تبدو الدول الأفريقية الأكثر تضرراً من القرار الروسي، خاصة أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية أدى إلى اندلاع أعمال شغب في بعض هذه الدول، ومن بينها كينيا.
وفي الوقت نفسه، يأتي انعقاد هذه القمة بعد فترة وجيزة من تمرد مجموعة “فاجنر”، مما يطرح تساؤلات عديدة حول مستقبل السياسة الأمنية الروسية تجاه القارة الأفريقية، فرغم وعد قائد مجموعة “فاجنر” يفجيني بريجوزين، بتركيز أوسع على العمليات الأفريقية، فإن خلافه الواضح مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين من شأنه أن يؤثر على السياسة الأمنية الروسية، وخاصة في ظل الانتقادات الغربية والأفريقية لدور “فاجنر”، والتحديات التي واجهت التعاون والتنسيق الأمني بين الجيش المالي وعناصر “فاجنر” خلال المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب، مما قد يدفع الكرملين نحو خيارات أخرى ومسارات أكثر تقليدية لتعزيز التعاون الأمني مع الدول الأفريقية الصديقة والحليفة لروسيا.
دلالات عديدة
يطرح انعقاد القمة الروسية-الأفريقية الثانية العديد من الدلالات التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- إبراز الثِقل السياسي لروسيا: اكتسبت القمة الروسية-الأفريقية لعام 2023 اهتماماً خاصاً من جانب موسكو، لا سيما أنها تأتي في سياق تصاعد حدة الحرب الروسية-الأوكرانية، وتفاقم الضغوط الغربية على الأولى، التي تسعى لتعزيز تحركاتها نحو أفريقيا بهدف الالتفاف على العزلة الغربية بعد بدء عملياتها العسكرية في أوكرانيا في فبراير 2022. ولذلك مثلت قمة سان بطرسبرج فرصة لإظهار أن موسكو لم يتم عزلها ولديها شركاء على استعدادٍ لتعميق تعاونهم، كما تراهن موسكو على استقطاب المزيد من الأصوات الأفريقية الداعمة لسياستها داخل الأمم المتحدة وخاصة مع استمرار العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، بالتوازي مع تنسيق التحركات مع الصين للترويج لأهمية تشكيل نظام متعدد الأقطاب ومحاولة تكوين تحالفات وتكتلات دولية داعمة لسياستها الدولية.
2- تزايد دور دبلوماسية الحبوب: حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تأكيد أن بلاده سوف تعوض الدول الأفريقية عن القرار الروسي بالانسحاب من اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وهو ما يعني أن موسكو سوف تستمر في استخدام ما يمكن تسميته بـ”دبلوماسية الحبوب” كأداة لتعزيز نفوذها داخل الدول الأفريقية، وستحاول تصوير نفسها على أنها “صديقة” لبعض الدول الأفريقية من خلال الإعلان عن استعادة محتملة لإمدادات الحبوب.
وفي هذا السياق، قال الرئيس بوتين أن روسيا على استعداد لإمداد 6 دول أفريقية بالحبوب في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر، وهي الصومال وبوركينافاسو وزيمبابوي ومالي وأفريقيا الوسطى وإريتريا. ومن هنا، يرى مراقبون أن موسكو تحاول استخدام هذه الآلية لتحقيق مكاسب سياسية، عبر حث بعض الدول الأفريقية على التماهي مع سياستها داخل الأمم المتحدة في مواجهة الدول الغربية.
3- دعم النفوذ الاقتصادي في أفريقيا: أشار الرئيس بوتين في كلمته أمام القمة إلى رغبة روسيا في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع أفريقيا، مضيفاً أن حجم التبادل التجاري يتزايد بوتيرة متسارعة. وقد أعلن أن روسيا وأفريقيا اتفقتا على زيادة التجارة نوعاً وكماً، فضلاً عن التحول إلى التسويات بالعملات الوطنية، بما في ذلك الروبل، وقال أيضاً أن الشركات الروسية منفتحة على نقل التكنولوجيا في الإدارة العامة والقطاع المصرفي إلى الدول الأفريقية. ومن هنا، ترى اتجاهات عديدة أن موسكو تسعى عبر هذه الإجراءات إلى توسيع نطاق نفوذها على المستوى الاقتصادي داخل القارة الأفريقية خلال المرحلة القادمة، وبالتالي تعزيز موقعها في مواجهة الدول الغربية التي تحاول بدورها مواجهة التحركات الروسية على الساحة الدولية.
4- توجه أفريقي متنامٍ لترسيخ الدور: وهو ما انعكس في كلمات القادة ورؤساء الوفود الأفريقية المشاركة في القمة، حيث ركزت معظم المطالب الأفريقية على تمثيل عادل لأفريقيا في المؤسسات الدولية، وخاصة الأمم المتحدة، على نحو يتوافق مع الدعوة التي توجهها روسيا والصين باستمرار لتشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب، وهو توجه تحاولان من خلاله إدارة التفاعلات مع الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أنها القوة الدولية الرئيسية على مستوى العالم، في ظل توسع نطاق الخلافات بين الطرفين خلال المرحلة الماضية.
وبالطبع، فإن ذلك لا ينفصل بدوره عن محاولة بعض الدول الأفريقية المشاركة في الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية للحرب الروسية-الأوكرانية، على أساس أن ذلك يمكن أن يساهم في احتواء التداعيات السلبية التي فرضتها على المستوى الدولي. وقد سبق أن طرحت الدول الأفريقية، في 16 يونيو الفائت، مبادرة للوساطة في الأزمة بين البلدين، من خلال قيام وفد من بعض تلك الدول، بقيادة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، بزيارة كييف وموسكو، لإقناع الطرفين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات لإنهاء الأزمة من خلال الوسائل السلمية.
تحديات مختلفة
رغم ذلك، يمكن القول إن التحركات التي تقوم بها روسيا من أجل توسيع نطاق العلاقات مع الدول الأفريقية تواجه تحديات عديدة، من أهمها:
1- تداعيات السياسة الروسية على الأمن الغذائي: ترى اتجاهات عديدة أنه سيكون من الصعب على روسيا أن تساعد بعض الدول الأفريقية بشكل كبير عبر تقديم الإمدادات الإضافية، وبالتالي إثبات موثوقيتها كشريك، ما لم يتم استعادة صفقة البحر الأسود التي تسمح أيضاً بتدفق الشحنات الأوكرانية إلى تلك الدول. ورغم تأكيد الرئيس بوتين على أن روسيا شحنت إلى أفريقيا نحو 11.5 مليون طن من الحبوب خلال عام 2022، وما يقرب من 10 ملايين طن في النصف الأول من العام الحالي، إلا أن ذلك لا يقلص من أهمية التساؤلات التي طرحت حول مدى قدرة روسيا على مواصلة هذا النهج، خاصة في حالة ما إذا استمرت الحرب في أوكرانيا رغم كل الجهود التي تبذل للوصول إلى تسوية لها.
2- بروز اتجاه مناوئ لروسيا في أفريقيا: لا تتبنى الدول الأفريقية سياسة واحدة أو متقاربة إزاء روسيا، حيث أن هناك العديد من تلك الدول التي ترى أن التحركات التي تقوم بها روسيا على الساحة الأفريقية يمكن أن تفاقم من حدة الأزمات التي تتعرض لها، خاصة على المستوى الأمني، في ظل النفوذ الذي تمتلكه مجموعة “فاجنر” الروسية، في دول مثل مالي. وقد وجهت أطراف عديدة بالفعل انتقادات واضحة لموسكو في هذا الصدد، واعتبرت أن تحركاتها يمكن أن تقلص من قدرة القوات الحكومية في بعض الدول على مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية، على نحو يبدو جلياً في حالة مالي، التي أصرت على سحب الأمم المتحدة لقواتها لحفظ السلام “مينوسما”، وهو ما يمكن أن ينتج ارتدادات جديدة على الأرض سوف تحاول التنظيمات الإرهابية استغلالها لتعزيز نفوذها ورفع مستوى عملياتها.
3- تأثير التحركات الغربية الموازية: يبدو أن الدول الغربية سوف تواصل جهودها خلال المرحلة القادمة لتوسيع نطاق علاقاتها الثنائية مع العديد من الدول الأفريقية، في إطار سعيها إلى موازنة التحركات التي تقوم بها روسيا على هذا الصعيد، وهو ما انعكس خلال الفترة الماضية في الزيارات التي قام بها العديد من المسئولين الأمريكيين إلى الدول الأفريقية، على غرار وزير الخارجية انتوني بلينكن الذي قام بجولة أفريقية، في منتصف مارس الماضي، شملت إثيوبيا والنيجر، وكانت الجولة الثالثة له إلى القارة منذ بداية توليه منصبه.
توجه مستمر
في النهاية، يمكن القول إن روسيا سعت عبر استضافة القمة الروسية-الأفريقية الثانية إلى التوصل إلى صيغة جديدة لتوثيق العلاقات مع الدول الأفريقية بما ينتج مكاسب مشتركة بين الطرفين، وهو توجه يبدو أنه سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، لا سيما في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، وغياب المؤشرات التي تزيد من احتمالات الوصول إلى تسوية سياسية لها خلال المرحلة القادمة، في ظل تباعد المواقف واتساع نطاق الخلافات بين الدول المنخرطة في هذه الحرب.