شكّل الاجتماع الذي عقدته اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) في باريس يومي 17 و18 يوليو الجاري، خطوة جديدة على مسار تشكيل “القوة الأمنية المشتركة” من شرق وغرب البلاد، والتي ستحال إليها مهمة ضبط الحدود، وذلك بهدف التصدي للإرهاب والتدخلات الأمنية المزعزعة للاستقرار وفقاً لما أشار إليه بيان صادر عن الخارجية الفرنسية عقب انتهاء الاجتماع. كما أوضح البيان أنه سيتم حشد الجهات المشتركة التي ستشارك في هذه القوة المشتركة بدعم من الأمم المتحدة، وهو ما سيجري متابعته في اجتماع لجنة (5+5) الذي سيعقد في بنغازي في 25 من الشهر نفسه برئاسة الأمم المتحدة.
أبعاد متعددة
جرى طرح مشروع تشكيل القوة الأمنية المشتركة خلال اجتماع مجموعة (5+5) مع مجموعة دول جوار ليبيا في القاهرة في فبراير الماضي، وعكس السياق -آنذاك- اتجاه دول جوار ليبيا لتشكيل القوة لتأمين الحدود الجنوبية للبلاد والتي لا يسيطر عليها بالكامل مما يسمح بتنامي أنشطة الجريمة المنظمة ولا سيما عمليات تهريب الأسلحة من وإلى ليبيا، بالإضافة إلى تنامي معدلات الهجرة غير الشرعية، والتي يعتقد أنها ارتفعت بعد ذلك عقب اندلاع الحرب في السودان في منتصف أبريل الماضي، الأمر الذي شكل دافعاً جديداً للمشروع.
وقد شاركت اللجنة الأمنية المنبثقة عن مجموعة برلين المعنية بالعملية السياسية في ليبيا ولا تزال تشكل مرجعيتها في المرحلة الحالية، للمرة الأولى في اجتماع مع لجنة (5+5) في طرابلس، في 24 مايو الماضي، بهدف دفع مشروع تشكيل القوة المشتركة. وبالتوازي مع ذلك، دخلت واشنطن هي الأخرى على الخط، وأشار المبعوث الأمريكي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند إلى أهمية أن تشكل قوة أمنية مشتركة لتأمين الانتخابات الليبية، لكن مؤتمر باريس الأخير عاد مرة أخرى ليؤكد على أولوية تأمين الحدود الليبية.
على هذا النحو، تنعكس توجهات الأطراف الخارجية، لا سيما المشاركة في اللجنة الأمنية المنبثقة عن عملية برلين، فباريس التي قلدت اللجنة العسكرية المشتركة وساماً رفيعاً لديها مصلحتها الخاصة في التركيز على عملية ضبط الحدود، خاصة في ظل الموقف الفرنسي من تمدد النفوذ الروسي من ليبيا إلى مناطق نفوذها بمنطقة الساحل الأفريقي، مما أثر بالفعل على المصالح الفرنسية في العديد من الدول مثل تشاد ومالي وأفريقيا الوسطى.
ولا يختلف الموقف الأمريكي كثيراً عن الموقف الفرنسي فيما يتعلق بالتحديات التي يفرضها التواجد الروسي عبر مجموعة “فاجنر”، إلا أن واشنطن تسعى إلى إفساح المجال للقيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، والتي أشارت تقارير أمريكية عديدة إلى أنها سيكون لها دور في تعزيز وضع القوة المشتركة في الجنوب الليبي، وهو ما يشكل مدخلاً لتنامي دور المجموعة، في حين أن فرنسا لا تمتلك قوة مماثلة في تلك المساحة، بل يعتقد أن وجود مجموعة “فاجنر” في الجنوب جاء على حساب إنهاء وجود محدود لها سابقاً قبل أن تصل المجموعة إلى ليبيا في غضون عام 2019.
متغيرات رئيسية
يمكن القول إن ثمة متغيرات رئيسية سوف يكون لها دور في تحديد المسارات المحتملة لهذا التوجه، يتمثل أبرزها في:
1- إعادة توجيه مهام اللجنة العسكرية المشتركة: ربما يُستنتج من السياق السابق أن هناك تقارباً فرنسياً-أمريكياً فيما يتعلق بالدوافع الأمنية الخاصة بتأمين الحدود الجنوبية الليبية، والتي تهدف إلى تقويض دور المجموعة العسكرية الروسية “فاجنر”. ومع ذلك، لا تبدو مساحات التوافق موجودة حول تمديد مهمة القوة المشتركة لتأمين العملية الانتخابية، وبالتالي العمل على زيادة مهام القوة المشتركة وإدخالها في المساحة الخاصة بالعملية السياسية. وفي هذا الصدد، يُشير العديد من المراقبين الليبيين في الوقت ذاته إلى أن لجنة (5+5) أصبحت عرضة للضغوط الخارجية التي تدفع إلى توجيهها وفق مصالح وأهداف تلك القوى. بينما يتعين أن يكون الهدف الرئيسي هو العمل على توحيد المؤسسة العسكرية. وعلى الرغم من إشارة كافة البيانات الصادرة عن اجتماعات اللجنة إلى تلك المهمة الرئيسية، إلا أن مساعي القوى الدولية كالولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى عملية تشكيل القوة المشتركة يمثل أحد مداخل عملية توحيد المؤسسة العسكرية، غير أنّ العديد من المراقبين يشككون في واقعية هذا التصور.
2- تباين مواقف الفاعلين من الخارج: من الأهمية بمكان الإشارة إلى متغير مهم، فالمؤتمر الأول الذي تبلورت فيه الفكرة كان من خلال اجتماع اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) مع مجموعة دول الجوار الليبي، بينما يتعلق اللقاء المقبل الذي يفترض أن ينضج خلاله المشروع بالآلية الأمنية المنبثقة عن مؤتمر برلين، وهو توجه مختلف يعكس طبيعة أهداف تلك القوى، ودورها المزمع في عملية التشكيل والتدريب والتسليح والانتشار وآليات المراقبة الحدودية والتنسيق مع الأطراف والقوى العسكرية الداخلية والأطراف الخارجية، في حين أن ما قد يهم دول الجوار هو الهدف من تشكيل القوة وهو ضبط الحدود، لكنها قد تختلف في وجهة نظرها مع انحراف عمل اللجنة المشتركة عن مهامها الأصلية بدافع أولويات مصالح القوى الأوروبية التي ستشارك الأمم المتحدة في اجتماع بنغازي. كذلك، من المتصور أن روسيا التي تستشعر أنها مستهدفة بهذا الأمر لن تأخذ موقع المراقب لهذه التطورات ولها تحالفاتها داخل ليبيا، فضلاً عن تأثيرها بحكم موقعها في مجلس الأمن.
3- تجاوز ملف المرتزقة الأجانب: لا يتوازى تصدر مهمة القوة الأمنية المشتركة ضبط وتأمين الحدود الجنوبية مع أولوية الاهتمام بملف المرتزقة الأجانب، وربما سيحد من وصول دفعات أخرى عبر الحدود الجنوبية للبلاد، لكن من المعروف أن العدد الأكبر من المرتزقة الأجانب والذي تجاوز الـ 20 ألف عنصر تم نقلهم جواً وفي إطار عملية منظمة خلال حرب طرابلس 2019، بتوافق تركي مع حكومة الوفاق الوطني السابقة، ويفترض أن هذا الملف يدخل ضمن اختصاصات عمل اللجنة. وفي هذا الإطار، يلفت بيان الخارجية الفرنسية حول اجتماع اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) إلى ما أسماه “التدخلات الخارجية المزعزعة للاستقرار”، كما أشار إلى عملية مكافحة الإرهاب من دون الإشارة صراحة إلى ملف المرتزقة الأجانب.
4- صعوبة تحييد الخلافات السياسية: من المحتمل أيضاً أن تنعكس التوترات السياسية بين القوى الليبية في ضوء تباين المواقف حيال مستقبل العملية السياسية على عملية التشكيل، فلا يمكن استبعاد ضرورة التوافق السياسي على إنجاح هذه القوة من جهة وتحييد تأثير الخلافات السياسية بين الشرق والغرب على عمل القوة المشتركة من جهة أخرى، وهو ما كشفت عنه بعض التسريبات عن اجتماع باريس والتي تشير إلى أنه لم يتم التوافق بعد على انضواء القوة التي ستشارك من غرب ليبيا تحت مظلة القيادة العامة للجيش الوطني الليبي في منطقة الجنوب التي يهيمن عليها، فيما ألمحت تلك التسريبات إلى أن هذا الأمر سيكون محل نقاش رئيسي في لقاء بنغازي المقبل.
5- تعارض المصالح مع المليشيات والفصائل المسلحة: يُضاف إلى ما سبق أيضاً أن عملية تشكيل قوة مشتركة مهمتها ضبط الحدود الجنوبية، ستمثل عامل ضغط على مصالح بعض المليشيات المتواجدة في غرب البلاد، والتي تشير تقارير دولية ومنها تقارير لجنة خبراء الأمم المتحدة بشكل دائم إلى دورها في الفوضى الأمنية وعمليات انتهاك الحدود، خاصة ما يتعلق بعمليات تهريب الأسلحة، بالإضافة إلى التكسب من عوائد عمليات الهجرة غير الشرعية. وفي حين أنه من المفترض أن يتم تشكيل القوة المشتركة لتفريغ قاعدة تلك المليشيات وإعادة توجيه دورها من الفوضى إلى الانضباط، فمن المتوقع أن يحدث تعارض مصالح في هذا السياق. فضلاً عن أن بعض الفصائل المسلحة التي تحولت إلى أجهزة أمنية تابعة لحكومة الوحدة الوطنية قد تعارض المبدأ من الأساس، بحكم رفضها لأي دور مشترك مع القيادة العامة للجيش الوطني الليبي.
تحركات متداخلة
في الأخير، من المتصور أن المشهد الليبي لا يزال حافلاً بالكثير من التفاعلات المتداخلة، فشكلياً قد يعكس مشروع تشكيل القوة الأمنية المشتركة جسراً لتفاهمات أمنية وترتيبات عسكرية في ضوء مشاركة رئيسي الأركان من الغرب محمد الحداد ومن الشرق عبد الرزاق الناظوري في اجتماع باريس، ويعتقد أنهما سيشاركان في اجتماع بنغازي المرتقب، لكن من الناحية العملية فإن تأثير القوى الخارجية ولا سيما المجموعة الأمنية المنبثقة عن مجموعة برلين سيشكل عامل ضغط على توجيه دور اللجنة العسكرية المشتركة، ولا يعتقد أنه ستكون له تأثيرات إيجابية على العملية السياسية بقدر ما يعتقد أن التوترات السياسية قد تعمل على إبطائه وعرقلته، مضافاً إلى ذلك التجاذبات الخارجية ذات الصلة.