رغم توتر العلاقات بين فرنسا وبعض دول منطقة الساحل، إلا أن ذلك لا ينفي أن الأولى ما زالت تبدي اهتماماً خاصاً بمتابعة التطورات التي تشهدها تلك المنطقة على المستويات المختلفة، لا سيما الأمنية والسياسية، حيث ترى أن ذلك يفرض تداعيات مباشرة على أمنها ومصالحها. وفي هذا السياق، كشف انتشار قوات عسكرية فرنسية على حدود تشاد والسودان “بدون ترخيص”، في 18 يونيو الجاري، الغطاء عن عددٍ من الدوافع الفرنسية في مثل هذا التواجد العسكري، سواء ما يخص منها أهمية تشاد كـ”مرتكز للنفوذ” الفرنسي في منطقة الساحل، أو ما يتعلق بالتنافس مع روسيا حول هذا النفوذ، لا سيما مع انتشار مجموعة “فاجنر” في الجوار الإقليمي لتشاد، والتي لا يبدو أنها سوف تتراجع عن تعزيز نفوذها في تلك المنطقة، حتى بعد اندلاع الأزمة الأخيرة مع الجيش الروسي، في 23 يونيو الجاري، والتي دفعت بيلاروسيا إلى التدخل من أجل احتواءها على نحو بدا جلياً في إنهاء المجموعة “تمردها” في روستوف.
عوامل متشابكة
يعتمد انتشار القوات الفرنسية في تشاد، ومنطقة الساحل عموماً، على اتفاقيات الشراكة التي أبرمت بين فرنسا وهذه الدول، وغالباً ما يتم تبرير هذا التواجد الفرنسي بالتعاون في مجال مكافحة الإرهاب أو الحركات المتمردة. ورغم هذه الاتفاقيات، فإن ثمة عوامل متشابكة تدفع فرنسا إلى مواصلة مثل هذا التواجد العسكري في تشاد، أهمها ما يلي:
1- الحفاظ على تشاد كمرتكز للنفوذ في الساحل: رغم تعمد الحرس الجمهوري التشادي توقيف القوة الفرنسية، التي كانت تتجول قرب مدينة أدري الحدودية مع السودان، في 18 يونيو الجاري، بالتزامن مع الجولة التي كان يقوم بها الرئيس محمد إدريس ديبي، لضمان الإغلاق الفعال للحدود مع السودان؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة مصلحة مشتركة تجمع بين باريس ونجامينا، وتتعلق بإضعاف المعارضة التشادية التي تشير اتجاهات عديدة إلى أنها ليست بعيدة عن الصراع العسكري في السودان.
واللافت في هذا السياق، أن هذه المصلحة المشتركة ليست وليدة اليوم، أو نتيجة لما يحدث في السودان من صراع عسكري فقط؛ بل أيضاً هي جزء من تاريخ طويل مارست فيه فرنسا دور المدافع عن حماية أنظمة الحكم المتوالية في تشاد، منذ استقلالها عام 1960 وحتى الآن، حيث يُمثل التواجد العسكري الفرنسي في تشاد مرتكزاً للحفاظ على النفوذ في منطقة الساحل. فقد كانت عملية “سيرفال”، ومن ثمّ عملية “برخان”، الفرنسيتان في مالي، منذ عام 2013، تعتمدان على القوات التشادية في تنفيذها.
2- تقليص التداعيات السلبية للصراع السوداني: تسعى فرنسا إلى الحد من ارتدادات الصراع العسكري في السودان، والتي ترى أنها سوف تُحدث حراكاً إقليمياً في الجوار الجغرافي للسودان، خاصة تشاد، التي أعلن رئيسها محمد إدريس ديبي منذ اليوم الأول لاندلاع الصراع وقوفه مع الجيش، وأغلق حدوده الشرقية مع السودان.
ومن دون شك، فإن ذلك يعود إلى تفاقم مشكلة اللاجئين السودانيين في تشاد، التي طالبت المجتمع الدولي، في 24 يونيو الجاري، بالتدخل من أجل مساعدتها في مواجهة هذا التدفق المستمر الذي ينتج أزمة إنسانية لا تبدو هينة، حيث بلغ عدد اللاجئين السودانيين الذين وصلوا إلى تشاد، في بداية يونيو الجاري، نحو 115 ألف لاجئ، ليصل عدد اللاجئين في تشاد إلى نحو 800 ألف لاجئ 60% منهم سودانيون.
وقد دفع ذلك المسئولين التشاديين إلى توجيه انتقادات قوية لاستجابة المجتمع الدولي للأزمة، حيث قال رئيس الوزراء صالح كيبزابو أمام دبلوماسيين وممثلي منظمات دولية، في 24 يونيو الجاري، أن “تعبئة المجتمع الدولي لا تصل إلى مستوى التعبئة الملحوظة في أماكن أخرى، مما يترك تشاد شبه وحيدة في مواجهة استقبال اللاجئين، مع استنفاد مواردها الخاصة إلى أقصى حد”.
كما أن قرب السودان من تشاد، الدولة التي عانت من النشاطات المدمرة لجماعات التطرف والعنف، بما فيها “بوكو حرام”، والجماعات التي انبثقت منها مثل تنظيم “داعش في غرب أفريقيا”، خلال العقد الماضي؛ يعني أن القتال الدائر في السودان يمكن أن تكون له نتائج كارثية على الداخل في تشاد، الذي يعاني بدوره من أزمات سياسية وأمنية واجتماعية لا تبدو هينة.
3- تأكيد التواجد الفرنسي في إطار التنافس الدولي: نظراً لاشتراك السودان في حدوده مع سبع دول، ولأنه محور تقاطع مصالح وتطلعات متعددة من قوى دولية على رأسها روسيا، لذا فإن أكثر ما تخشاه باريس هو الانعكاسات السلبية على الاستقرار الإقليمي إذا اشتد الصراع العسكري في السودان، بما يمكن أن يُفيد منافسيها، لا سيما روسيا التي يمكن أن تسعى لاستغلال ذلك لتعزيز موقعها في مواجهة الضغوط والعقوبات التي فرضت عليها من جانب الدول الغربية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير 2022.
وهنا، فإن فرنسا لا يمكن أن تعول فقط على أن الأزمة الجديدة التي اندلعت بين مجموعة “فاجنر” والجيش الروسي عقب “التمرد” الذي أعلن عنه قائد المجموعة يفجيني بريجوجين، في 23 يونيو الجاري، والذي انتهى بالوصول إلى تسوية برعاية بيلاروسيا، سوف تفرض تداعيات سلبية على الوجود الروسي في هذه المنطقة، حيث أن روسيا يمكن أن تتجه إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع تلك المعطيات الجديدة، فضلاً عن أن المكاسب الاقتصادية التي تحصل عليها “فاجنر” من تعزيز نفوذها في بعض الدول الأفريقية سوف تدفعها إلى التمسك بمواقعها فيها.
مصالح مشتركة
يُمكن القول في النهاية إن فرنسا التي كانت تحتفظ بقواعد عسكرية قرب العاصمة نجامينا في إطار ما كان يُطلق عليه عملية “إبيرفييه”، قبل أن يتم استبدالها في أغسطس 2014 بعملية “برخان” التي اتخذت من تشاد نقطة انطلاق لتنفيذ عملياتها في مالي والساحل الأفريقي؛ تسعى إلى الحفاظ على تواجدها العسكري في تشاد من أجل حماية مصالحها في منطقة نفوذها التقليدي، فضلاً عن دعم الحكم الانتقالي في هذا البلد، في مواجهة الحركات المتمردة من المعارضة التشادية.
ومن ثمّ يبدو أن “المصالح المشتركة” هي ما تقود التقارب بين نجامينا وباريس، حيث تُدرك باريس أهمية تواجدها العسكري هناك، خاصة في ظل الصراع الجيوسياسي متعدد المناحي في السودان، الذي تخشى فرنسا من أن يُصبح مُعقداً أكثر من وضع ليبيا التي تراجعت فيها فرنسا لحساب التنافس الدولي، خاصة مع إيطاليا.