استغلال الموارد:
إطلاق العراق جولةَ التراخيص السادسة لاستكشاف الغاز

استغلال الموارد:

إطلاق العراق جولةَ التراخيص السادسة لاستكشاف الغاز



شهدت الفترة الماضية تحركات عراقية متسارعة في مواجهة تهديدات أمن الطاقة، والتي تركز بشكل خاص على قطاع الغاز الطبيعي غير المستغل، وفي هذا الإطار تم إطلاق الجولة السادسة لتراخيص استكشاف الغاز الطبيعي في 11 رقعة بالأراضي العراقية، وذلك بهدف مواكبة تحركات دول المنطقة في تطوير صناعة الغاز، وتعظيم الاستفادة من توجهات قطر لدعم قطاع الطاقة العراقي، إضافة إلى تحقيق الاستغلال الأمثل لموارد الغاز الطبيعي الداعم المهم لعملية التنمية في العراق.

فقد أعلن وزير النفط العراقي “حيان عبد الغني”، في 18 يونيو 2023، إطلاق جولة التراخيص السادسة الخاصة بـ 11 رقعة استكشافية غازية في عدد من المحافظات العراقية، موضحاً أن 8 منها تقع في محافظة الأنبار، بينما تقع واحدة في محافظة نينوى، وأخرى بين الأنبار ونينوى، والأخيرة بين الأنبار والنجف. ولفت إلى أن تلك الجولة تأتي انسجاماً مع البرنامج الحكومي، وتوجيهات رئيس الحكومة “محمد شياع السوداني” بزيادةِ الاحتياطي النفطي والغازي، وإدامة وزيادة الإنتاجِ من النفط الخام، والغاز الحر، ومعالجة الغاز المصاحب وتحويله إلى ثروةٍ وطاقة منتجة تغطي الحاجة المحلية، وخصوصاً لمحطات الطاقةِ الكهربائية وغيرها.

وتجدر الإشارة إلى أن العراق كان قد أطلق الجولة الخامسة لاستكشاف وتطوير حقول نفط وغاز في 26 أبريل 2018، إلا أنه لم يتم توقيع عقود بشأنها إلا في فبراير 2023، وأرجع سبب التأخير إلى تدخلات سياسية، لا سيما وأن تلك الجولة ركزت على بعض الحقول الحدودية مع دول الجوار (إيران والكويت)، وكذا في مناطق كانت تشهد نزاعات مثل البصرة وديالى.

أبعاد التحرك

يرتبط التحرك العراقي لإطلاق جولة التراخيص السادسة في ذلك التوقيت بعدد من الأبعاد، يتمثل أهمها في التالي:

1- مواكبة تحركات دول المنطقة في تطوير صناعة الغاز: يأتي التحرك العراقي مواكبةً لتحركات مماثلة من دول منطقة الشرق الأوسط استهدفت تزايد الاعتماد على الغاز الطبيعي، سواء للاستهلاك المحلي أو تصديره للخارج، في دلالة على الاتجاه العالمي لزيادة الاعتماد على المنطقة في إمدادات الغاز خلال السنوات المقبلة، والتي يتوقع أن يزيد إنتاجها منه بنحو 20% حتى عام 2030 (وفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة “وود ماكينزي” في أبريل 2023)، مما شجع العراق للدخول في ذلك المعترك بهدف تصدير فائض الغاز في مرحلة لاحقة (كما أعلن وزير النفط العراقي أثناء إطلاق الجولة السادسة للتراخيص). ويشار في هذا الصدد إلى أهم التحركات الأخيرة بذات الشأن من بعض دول المنطقة، ولا سيما دول الجوار الخليجي للعراق:

أ. سلطنة عمان:كشفت وزارة الطاقة والمعادن العمانية، في 26 مارس 2023، طرحها 3 مناطق امتياز للنفط والغاز لشركات محلية وعالمية، على أن يتم تلقي الطلبات حتى 25 يونيو 2023، وسبق ذلك تحركات لتعظيم استغلال أصول الغاز الطبيعي، حيث أصدرت السلطنة في ديسمبر 2022 قراراً بتأسيس شركة متكاملة لإدارة جميع أصول وصادرات وواردات الغاز الطبيعي والمنتجات المشتقة، وتزامن ذلك مع توقيع اتفاقات لتصدير الغاز لعدة دول كان آخرها الاتفاق في 19 يونيو 2023 على تصدير الغاز العماني لبنجلاديش لمدة 10 سنوات تبدأ في عام 2026.

ب. الكويت:دشنت مؤسسة البترول الكويتية، في 11 يونيو 2023، خط غاز استراتيجياً حجم 40 بوصة، يمتد من شمال الكويت إلى ميناء “الأحمدي”. وأرجعت المؤسسة الهدف الرئيسي من ذلك الخط إلى زيادة إنتاج الغاز الطبيعي بما يلبي متطلبات السوق المحلية.

ج. السعودية: تعكف المملكة على اكتشاف حقول جديدة للغاز الطبيعي بهدف زيادة إنتاجها منه، مثل اكتشاف شركة “أرامكو” في نوفمبر 2022 حقلين لغاز غير تقليدي (يستخرج ذلك الغاز من مكامن مختلفة من تلك المكامن الأقرب التي يتواجد بها الغاز التقليدي)، وكذا الإعلان عن اكتشاف 5 حقول في 4 مناطق في فبراير 2022.

د. الإمارات: أعلنت في 3 فبراير 2022 عن أول اكتشاف لحقل غاز في المنطقة البحرية الواقعة قبالة سواحل إمارة أبوظبي، كما توصلت في نهاية يوليو من العام نفسه، إلى كشف ثانٍ للغاز يقع ضمن امتياز المنطقة البحرية رقم 2 في أبوظبي.

ه. قطر: وهي تسبق نظيراتها من دول المنطقة، حيث إنها الآن تجاوزت مرحلة الاستكشاف وتقوم بعقد صفقات طويلة الأجل مع العديد من الدول لتصدير إنتاجها المتزايد، وكان آخرها توقيع صفقة في 20 يونيو 2023 لتوريد الغاز الطبيعي المسال إلى الصين لمدة 27 عاماً (تعد الثانية من نوعها بين البلدين)، وذلك على خلفية مخطط قطر لزيادة إنتاجها من الغاز المسال من 77 مليون طن سنوياً إلى 126 مليون طن بحلول عام 2027.

يرى أن بغداد تركز على محاكاة التحركات الخليجية لاستغلال الغاز الطبيعي على قدر المستطاع، نظراً لتقارب حجم احتياطات الغاز الطبيعي في منطقة غرب آسيا مع استثناء قطر وإيران (انظر شكل رقم 1)، وهو ما يؤهلها لأن تصبح مورداً رئيسياً له خلال السنوات المقبلة، للاستفادة من التوجه العالمي للاعتماد على ذلك المورد في المرحلة الانتقالية للتحول من الاعتماد على الطاقة التقليدية إلى الطاقة الخضراء.

شكل (1): أكبر 5 دول امتلاكاً لاحتياطات غاز مؤكدة بمنطقة غرب آسيا في عام 2022 (بالتريليون متر مكعب)
(Source: www. statista.com)

2- الاستفادة من توجهات قطر لدعم قطاع الطاقة العراقي: وقع البلدان عدة مذكرات تفاهم أثناء زيارة الأمير “تميم بن حمد آل ثاني” للعراق في 15 يونيو الجاري، ركزت غالبيتها على دعم قطاع الطاقة العراقي، ولا سيما في قطاع الغاز الطبيعي، حيث تم الاتفاق على التعاون مع الشركات القطرية المتخصصة في مجال بناء محطات لاستقبال الغاز الطبيعي المسال وإنشاء الخزانات الخاصة بذلك، وإنشاء البنى التحتية اللازمة لذلك من محطات كهربائية وخطوط أنابيب، ويرى أن الهدف من إقامة تلك المحطات ما يلي:

أ- استقبال وتخزين الغاز القطري أو أي غاز من الخارج لدعم قطاع الكهرباء بالعراق، وذلك مع إمكانية تخزينه في صورته المسالة كاحتياطي استراتيجي لأوقات الطوارئ.

ب- ترى بغداد أنه في مرحلة مقبلة قد يتم استخدام تلك المحطات لتخزين الغاز العراقي مع إمكانية تسييله لتصديره للخارج، خاصة في ضوء توقعات بزيادة إنتاج الغاز الطبيعي في العراق بشكل كبير حتى 2030، وذلك بما يتراوح بين 40 و80 مليار متر مكعب سنوياً وفق عدة سيناريوهات (انظر شكل 2).

شكل (2): تطور وتوقعات إنتاج الغاز الطبيعي في العراق خلال الفترة (2000-2030) (بالمليار متر مكعب)
(Source: Iraq’s Energy Sector: A Roadmap to a Brighter Future, International Energy Agency, April 2019)

في هذا الإطار قد توفر تلك البنية التي ستجهزها قطر دعم صناعة الغاز الطبيعي في العراق، سواء من اكتشافات الغاز الجديدة من جولة التراخيص السادسة، أو غيرها من الاكتشافات المحتملة في المستقبل، وهو ما يجعل البلدين شريكين في قطاع الطاقة، ويقلص ذلك من أن تصبح السعودية مصدّراً رئيسياً للطاقة الكهربائية إلى العراق، في إطار الربط الكهربائي الخليجي/ العراقي الذي تم تدشينه في 8 يونيو 2023.

علاوة على ذلك، فإن الدعم القطري لقطاع الغاز الطبيعي في العراق سيتم بشكل غير مباشر، وذلك من خلال زيادة المشروعات التي تؤدي لزيادة الطلب الداخلي عليه، بما يفعّل منظومة صناعة واستهلاك الغاز داخلياً، وهو ما دلل عيه توقيع شركة “أورباكون” القابضة القطرية مذكرة تفاهم مع الهيئة الوطنية للاستثمار في العراق (أثناء زيارة الأمير القطري للعراق)، لإنشاء وتطوير محطتين لتوليد الكهرباء في العراق بإجمالي 2400 ميجاواط بتكلفة 2.5 مليار دولار، فضلاً عن توقيع شركة استثمار القابضة القطرية 3 مذكرات تفاهم بقيمة 7 مليارات دولار لتطوير مدينتين جديدتين، وبناء سلسلة فنادق جديدة وإدارة مستشفيات، مما يزيد استهلاك الغاز خاصة في القطاع المنزلي.

ولا يستبعد أن تركز الشراكة المرتقبة بين العراق وقطر في قطاع الغاز على الاستفادة من خبرات الدوحة في مجالي استخراجه وإنتاجه وتخزينه، لا سيما وأن دخول قطر لدعم قطاع الغاز العراقي قد يواجه بضغوط إيرانية، إلا إذا تم عقد تسوية بين الدول الثلاث تضمن تعظيم مصالحهم في قطاع الغاز أو في ملفات أخرى. فبالنسبة لإيران فهي ترغب في أن يتم إسالة غازها الطبيعي لتصديره للخارج، ويرى أن التسوية قد تتبنى فكرة بناء قطر محطة إسالة في العراق، والتي يمكن من خلالها استقبال وتسييل الغاز الإيراني لتصديره للخارج بجانب الغاز العراقي، على أن تقوم قطر والعراق بشكل مشترك بإدارة المحطة وتشغيلها والاستفادة من رسوم التصدير (يعتبر هذا سيناريو مبسطاً لإمكانات التعاون بين الدول الثلاث في مجال الغاز).

3- تحقيق الاستغلال الأمثل لموارد الغاز الطبيعي: يسعى العراق لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي على مستويين، سواء الغاز الطبيعي “غير المصاحب” من الحقول مباشرة، أو لذلك المصاحب لإنتاج النفط، والذي يتم حرقه بدون استغلاله، حيث جاءت في المركز الثاني كأكبر دولة بعد روسيا قامت بحرق الغاز المصاحب لإنتاج النفط خلال الفترة 2018/2022 (انظر شكل رقم 3)، وهو ما يعد إهداراً لمواردها، وبالتالي فإن الاتجاه لتحقيق الاستغلال الأمثل لذلك النوع من الغاز أمر حيوي لأمن الطاقة العراقي، لا سيما وأن الاكتشافات المحتملة للغاز الطبيعي “الحر” قد لا تكون ذات جدوى اقتصادية، سواء من حيث الحجم أو صعوبة استخراجها وإنتاجها.

شكل (3): أكبر الدول المتسببة في الغاز المشتعل خلال الفترة (2018-2022)
(Source: Global Gas Flaring Tracker Report, World Bank, March 2023)

يضع العراق خطة بديلة لتحسين استغلاله للغاز المصاحب في حالة عدم نجاحه في استغلال الغاز الحر (غير المصاحب)، وهو ما عكسته بعض التقديرات الدولية المتخصصة التي تشير إلى تركيز العراق على إنتاج الغاز المصاحب حتى عام 2030، ونجاحه في استغلاله ليرتفع إنتاجه من 4.5 مليارات متر مكعب في 2015 إلى 39.6 مليار متر مكعب في 2030 (انظر شكل رقم 4).

شكل (4): تطور استغلال العراق للغاز المصاحب خلال الفترة (2000-2030)
(Source: Iraq’s Energy Sector: A Roadmap to a Brighter Future, International Energy Agency, April 2019)

إن تضاعف حجم إنتاج الغاز المصاحب بأكثر من 7 أضعاف خلال الفترة 2015/2030 (وفق التوقعات السابقة)، وكذا بدء إنتاج الغاز الحر بكميات تجارية مستقبلاً؛ يتطلب قدرات لنقل ذلك الغاز وتخزينه، وهو ما تستهدفه المشروعات القطرية أو أي مشروعات أخرى قد يتم التوقيع على تنفيذها خلال الفترة المقبلة، ولا يستبعد أن تسهم إيران في ذلك القطاع، لا سيما وأن ذلك بمثابة أداة جديدة لتثبيت الحضور الإيراني في العراق، في حالة نجاح بغداد في تقليص الاحتكار الإيراني في مجال توريد الغاز والطاقة الكهربائية، مع توقع أن يكون ذلك التواجد محدوداً بسبب الاعتماد على شركات متعددة الجنسيات ودول أخرى في هذا المجال.

دعم التحول

في الختام، إن محاولات العراق لتعظيم استغلاله لمورد الغاز الطبيعي يأتي في إطار مواجهته لأبرز التحديات التي تؤخر تطوير قطاعاته الاقتصادية، والمتمثلة في تراجع نقص إنتاج الكهرباء بسبب عدم وفرة الغاز اللازم لذلك. وفي هذا الإطار، يركز العراق على قطاع الغاز لكونه الداعم الرئيسي لعملية التنمية الاقتصادية خلال السنوات المقبلة، مما يشير إلى أن خطوة التعاون مع قطر وطرح الجولة السادسة لتراخيص استكشاف الغاز هي تمهيد لما هو قادم لتطوير ذلك القطاع، لتصبح بغداد من الدول الواعدة بهذا القطاع في المنطقة مستقبلاً، لا سيما وأن ذلك سيزيد من إمدادات الغاز في العالم، وفي الوقت نفسه زيادة وتنويع صادراته في مواجهة أي محاولات لاحتكاره مستقبلاً، وتقليص الأثر البيئي للنفط، مما يوفر دعماً دولياً لبغداد يشجعها على ذلك التحول.