دبلوماسية المسار الثاني:
تقييم الفرصة الأخيرة للتفاوض قبل اندلاع الحرب

دبلوماسية المسار الثاني:

تقييم الفرصة الأخيرة للتفاوض قبل اندلاع الحرب



استنفاد المسار التفاوضي الرسمي بين أطراف النزاع دون الخروج باتفاق أو نتيجة، قد يجعل من الاستمرار في هذا النوع من المفاوضات فعلًا غير مُجدٍ، ناهيك عن الكلفة السياسية للاستمرار في عملية تفاوضية بلا نتائج أمام الأنصار أو الناخبين والخصوم في الداخل، فاستمرار التفاوض الرسمي في تلك الحالة قد يعني إعادة تدوير للحجج والاقتراحات والمقاربات التي تم رفضها في جولات تفاوضية سابقة، أو الدوران حول مواقف positions مصالح interests، وهو ما يعني ضياع وقت وجهد بلا مقابل. ناهيك عن التطورات على الأرض التي قد تعظم مكاسب أحد الطرفين المتنازعين على حساب الآخر. هنا يُعد خيار الحرب خيارًا أخيرًا أو كما يُقال امتدادًا للسياسة بشكل آخر، وهنا أيضًا تبدو دبلوماسية المسار الثاني الخيار ما قبل الأخير لتجنب الوقوع في فخ النزاع المسلح وتداعياته الإنسانية والاقتصادية الكبرى.

ما هي دبلوماسية المسار الثاني؟

عادةً ما تُعرف دبلوماسية المسار الثاني بأنها هذا التفاعل غير الرسمي وغير الحكومي بين الجماعات أو البلدان المتصارعة بغرض تطوير استراتيجيات، والتأثير في الرأي العام، وإنتاج موارد بشرية، ومحتوى موضوعي بالشكل الذي يمكن من المساعدة في تسوية النزاع القائم أو المحتمل. هذا وقد صاغ المصطلح لأول مرة الدبلوماسي الأمريكي الشهير جوزيف مونتفيل في عام 1981 قاصدًا به الحوارات غير الرسمية في عملية التفاوض. وإن كان تعبير دبلوماسية “المسار الأول” عادةً ما يطلق على الدبلوماسية الرسمية، فإنه يمكن للقارئ التكهن بأن دبلوماسية “المسار الثاني” تطلق على كل ما هو غير رسمي، فيما تقع دبلوماسية “المسار الأول” ونصف في منزلة بين هذا وذاك. وهنا ينبغي التأكيد على أن هذا التمايز لا يعني أن دبلوماسية المسار الثاني هي بديل للمسار الأول، بقدر ما هي فعل مكمل وداعم له.

سباق الزمن بالخيار “الصلب”

كثيرًا ما تشير أدبيات تسوية النزاعات إلى نوعين من دبلوماسية المسار الثاني. النوع الأول، وهو “الناعم” Soft Track Two، ويكون الغرض منه إيجاد مساحة للتفاعل بين الخصوم بغرض بناء العلاقات، وكسر الحواجز النفسية والفرضيات المسبقة، وفهم موقف الخصم لبناء سرديات مشتركة دون التقيد بضرورة الخروج بنتيجة ما. أما النوع الثاني فهو الصلب Track Two Hard، وهو ما نحن معنيون به في هذا التحليل أخذًا في الاعتبار محدودية الوقت المتاح ما قبل الموجهة العسكرية بعد استنفاد مسار التفاوض الرسمي. هذا ويعتمد النوع الصلب على دعوة أشخاص غير رسميين مؤثرين أو خبراء أو تقنيين من جماعتي النزاع ليجتمعا في إطار شبه سري وتحت رعاية طرف ثالث أو وسيط غير حكومي. ويكون الهدف المحدد هنا هو إنتاج مقترحات وحلول عملية يمكن البناء عليها من قبل المفاوضات الرسمية من أجل تسوية النزاع. ويتم تنفيذ هذا النوع بتيسير أو وساطة من ممارسين لتسوية النزاع أو أكاديميين ممارسين. ويندرج تحت وصف “الممارسين” دبلوماسيون سابقون، وأكاديميون، وعلماء نفس سياسي.. إلخ. هذا وتعد مفاوضات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين واحدة من الأمثلة الناجحة لكيفية استخدام مخرجات دبلوماسية المسار الثاني الصلبة والبناء عليها في عملية تفاوضية رسمية تخلص إلى نتائج مرضية لطرفي النزاع.

مقومات النجاح

تتوقف فرص نجاح دبلوماسية المسار الثاني على مجموعة من العوامل المتعلقة بتفاصيل العملية التفاوضية ذاتها أو الفاعلين (وسطاء أو/ومشاركين). على سبيل المثال، تسلط الأدبيات ذات الصلة الضوء على عناصر مثل نزاهة الوسيط وصدقه، ودرجة اعتماده على نظرية قد ترشد مهمته ودرايته بمنطقة النزاع وجوانبه، وتوقيت التدخل، واستعداد الوسيط والمشاركين للمخاطرة بالفشل أو الاتهام من قبل الرأي العام في البلدين بالتفريط أو الخضوع للعدو. بالإضافة إلى عوامل متعلقة باختيار المشاركين أنفسهم، وإلى أي مدى يملك هؤلاء القدرة على التواصل بالمسارات الرسمية في بلدانهم ونقل نتائج المفاوضات، ناهيك بالطبع عن مقدرة هؤلاء على ابتكار مقترحات خلاقة وحلول جديدة “خارج الصندوق”، والمعايير والأدوار التي يحددها الميسر، والتنسيق بين المسار الأول والمسار الثاني (فيشر 2006)، وتوفر طرق لنقل المخرجات التفاوضية.

عن التوقيت

برغم الخلاف حول التوقيت الأمثل لتدخل دبلوماسية المسار الثاني في أدبيات تسوية النزاع؛ إلا أن هناك ميلًا لدى البعض إلى تفضيل لحظة “نضوج” النزاع Ripeness moment، وهي اللحظة التي يدرك فيها الطرفان المتنازعان أن الصراع قد أنهكهما، وأن استمرار التصعيد يعني المزيد من الخسائر دون قدرة على حسم الصراع لأي منهما، فيما تظل تداعيات الخيار العسكري وخيمة. غير أن وجهة نظر أخرى تقول إن الأمر لا يتوقف على لحظة نضوج النزاع بقدر اعتماده على توافر رغبة حقيقية Readiness moment لدى الأطراف المتصارعة للبحث عن شكل لإعادة صياغة النزاع بشكل عملي وواقعي. فيما يرى آخرون أن التوقيت الأمثل يكون بالتوازي مع التحرك الدبلوماسي على المسار الأول، أو حينما تصل الدبلوماسية إلى طريق سد في التفاوض لا يمكن التحرك بعده.

“نقل” المخرجات

تُعرف عملية “النقل” أو transfer بأنها العملية التي يتم من خلالها تمرير النتائج من المسار الثاني إلى المسار الأول للمفاوضات ومركز صنع القرار. هذا وتنقسم النتائج إلى نوعين: تغييرات فردية (على سبيل المثال، المواقف المحسنة والإدراك الجديد للصراع)، والمنتجات الجماعية (على سبيل المثال، أطر التفاوض ومبادئ الحل التي تم صياغتها والاتفاق عليها). بتعبير آخر، يحتاج المشاركون في المسار الثاني أولًا إلى تغيير وجهات نظرهم حول الصراع. ثم التفكير وإنتاج خيارات لحل النزاع. وفي النهاية يتم “نقل” هذه الأفكار إلى القادة والمفاوضين الرسميين. وتشير الأدبيات إلى أنه كلما زادت قدرة المشاركين على التواصل مع القنوات الرسمية، زاد احتمال تأثيرهم على مستقبل الصراع.

القيود والتحديات

بالرغم من كونه فرصة لتحقيق ما قد يعجز عنه المسار التفاوضي الرسمي في بعض الحالات؛ إلا أن دبلوماسية المسار الثاني قد يحد من تأثيرها عدد من نقاط الضعف. أولها، هو الاحتياج إلى مشاركين ومفاوضين من نوع خاص. فاختيار شخص كفء ومرن يملك المعرفة السياسية والتقنية وقادر على إنتاج أفكار إبداعية لا يعني بالضرورة أنه قادر على إيصال مخرجات التفاوض إلى السلطة السياسية أو إقناعها بها، والعكس صحيح، فالمفاوض في المسار الثاني قد تكون له/لها درجة كبيرة من القرب من هياكل السلطة السياسية في بلده لكنه يفتقد المرونة والتفكير الخلاق المبدع والخلفية التقنية المطلوبة إن كان للنزاع أبعاد تقنية. ثانيًا، يمكن أن تستغرق مفاوضات المسار الثاني وقتًا طويلًا لتحقيق نتائج في الوقت الذي لا يوجد فيه أي التزام سياسي أو أخلاقي على أي أطراف النزاع الرسمية بعدم تغيير معادلات القوة على الأرض. وهو ما يعني أن الناتج التفاوضي قد يكون في النهاية بلا قيمة بأن تجاوزته الأحداث. ثالثًا، على عكس المفاوضات الرسمية، يفتقد المفاوضون في المسار الثاني الموارد والأدوات اللازمة للضغط المستمر على شركائهم أثناء عملية التفاوض وبعده من أجل تنفيذ الاتفاقات. رابعًا، المسار الثاني متوقف على مدى انفتاح النظم السياسة الرسمية في بلدَيِ النزاع على الفعل السياسي من خارج الدوائر الرسمية. فحتى في أكثر النظم ديمقراطية قد تكون هناك قوانين تجرم التواصل مع كيانات بعينها عبر قنوات غير رسمية حكومية. خامسًا، الجهات المشاركة في مفاوضات المسار الثاني لا تخضع في معظم الحالات للمساءلة والمحاسبة أمام الجمهور أو البرلمانات عن القرارات والتقديرات، وهم أيضًا غير ملزمين سياسيًا بالتوضيح للرأي العام حيثيات وتفاصيل قراراتهم واختياراتهم. سادسًا، قد يكون تعدد مبادرات المسار الثاني دون وجود تنسيق بين تلك المبادرات أو خيط ناظم يربطها سببًا للتشتت والتضارب.

نماذج:

في عام 1994، كادت أن تندلع حربا ما بين الولايات المتحدة وهايتي بعـد أن أصدر مجلس الأمن قرارًا يخول الدول الأعضاء الحق في استخدام القوة لضمان امتثال هايتي لقرارات الأمم المتحدة السابقة التي تدعو إلى استعادة الحكومة الدستورية بعد انقلابا كان قد وقع قبل أعوام أسفر عن توتر الأوضاع في البلاد وموجات من النزوح تجاه الولايات المتحدة الأمريكية. في يوليو 1994، حذرت إدارة كلينتون الجيش الهايتي بعد أعلن كلينتون أن جميع الخيارات الدبلوماسية قد استنفدت. وما قبل مزيد من التصعيد، بدت وساطة قام بها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر ذات تأثيراً فاعلاً. كان كارتر بعد خروجه من البيت الأبيض قد أسس في عام 1982 – بالشراكة ما جامعة أيموري -مركز كارتر كمؤسسة غير حكومية، غير حزبية. وهي المؤسسة التي لعبت دورا فاعلا في التسعينات عبر دبلوماسية المسار الثاني والمسار 1.5 في التعامل مع نزاعات في مناطق عدة من العالم. وفق مذكرات الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، ووفق تقرير أخر لمؤسسة رند الأمريكية، فان وساطة الرئيس كارتر مع العسكريين الهايتيين أدت لنزع فتيل الأزمة وتجنب مواجهة عسكرية أعتبرها كثيرون وشيكة. في اعقاب تلك الوساطة وصلت قوات متعددة الجنسيات الي هايتي واعادت الاستقرار الى البلاد.

 وبالمثل تكشف نتائج عدد من الدراسات أن دبلوماسية المسار الثاني قد تم الاستفادة منها في مناطق عدة في إفريقيا في التسعينات والألفية الجديدة، مع دول بارزة بما في ذلك موزمبيق وجنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكينيا والسنغال وتونس. تضمن ذلك دورا لفاعلين من غير الدول مثل القادة الدينيين وقادة الشباب ورجال الأعمال المؤثرين والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية.  وقد ساعد تطبيق دبلوماسية المسار الثاني على استعادة التهدئة ما بين الخصوم، ومعالجة مخاوف المجتمعات المتضررة، وتسهيل تحقيق العدالة للأفراد في المجتمع، وتيسير الانتقالات الديمقراطية وتقليص فرص الحروب الأهلية المحتملة عبر فتح قنوات الاتصال وتحسينها، وتغيير مواقف الأطراف المتنازعة حول الآخر، واستعادة العلاقات من خلال بناء الثقة، وتقديم فرص جديدة للتفاوض، وتغيير ديناميكية الصراع من خلال تعزيز أصوات الاعتدال. في كينيا، تشمل النزاعات الملحوظة التي استلزم استخدام دبلوماسية المسار الثاني أعمال العنف التي أعقبت الانتخابات في الفترة 2007-2008، والعنف في عام 2017 ، والصراعات بين المجتمعات الرعوية في بارينجو وتوركانا ، والصراعات على الحدود بين كينيا والصومال.