تتواصل الاجتماعات التي تعقد بمشاركة مسئولين من سوريا وتركيا وروسيا وإيران من أجل تعزيز فرص تحسين العلاقات بين الدولتين الأوليين، وكان آخرها اجتماع وزراء خارجية الدول الأربعة في موسكو في 10 مايو الجاري، وهو الاجتماع الأول من نوعه بين وزيرى الخارجية السوري والتركي منذ اندلاع الأزمة السورية في مارس 2011.
ورغم أن عقد هذه الاجتماعات يمثل، في حد ذاته، مؤشراً على أن هناك فرصة بالفعل للوصول إلى تفاهمات بين أنقرة ودمشق، إلا أن ذلك لا يمثل نهاية المطاف. وحتى في حالة ما إذا اتخذت خطوات على صعيد تعزيز هذا التقارب، على غرار الاتفاق في الاجتماع الأخير على أن يقوم نواب وزراء الخارجية بإعداد “خارطة طريق” لتطوير العلاقات بين سوريا وتركيا، فإنها في النهاية لا تنفي أن الخلافات العالقة بين الطرفين لا تبدو ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة.
اللافت في هذا السياق، هو أن اجتماع وزراء الخارجية في موسكو جاء قبل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية بأربعة أيام. وبصرف النظر عمّا إذا كان الرئيس رجب طيب أردوغان سوف ينجح في تجديد ولايته الرئاسية أم لا، فإن الإصرار على عقد الاجتماع في هذا التوقيت يوحي بأن ثمة رسالة يسعى الجانبان إلى توجيهها ومفادها أن تغيير النمط السائد في إدارة العلاقات الثنائية قد يكون هو الخيار الأفضل في المرحلة الحالية، في ظل المعطيات الجديدة التي طرأت على الساحتين الداخلية والخارجية، لا سيما فيما يتعلق بتغير توازنات القوى داخل سوريا لصالح نظام الرئيس بشار الأسد، وتصاعد الاتجاه نحو التهدئة على مستوى منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
ملفات متعددة
تتعدد الملفات العالقة بين تركيا وسوريا في المرحلة الحالية، والتي يتوقع أن تكون محاور رئيسية في “خارطة الطريق” التي سيجري العمل على إعدادها في المرحلة القادمة كما اتفق وزراء الخارجية في اجتماع موسكو، ويتمثل أبرزها في:
1- محاولات إعادة اللاجئين السوريين: تمثل إعادة اللاجئين السوريين – الذين يصلون حسب بعض التقديرات التركية والدولية إلى نحو 3.7 مليون لاجئ، في حين ترى تقديرات أخرى أن عددهم يتجاوز ذلك – إلى سوريا أحد أهم الأهداف التي تسعى تركيا إلى تحقيقها عبر تعزيز فرص التقارب مع سوريا وتغيير نمط إدارة العلاقات مع نظام الرئيس بشار الأسد، خاصة في ظل الأعباء التي يفرضها وجود هذا العدد على الاقتصاد التركي الذي يعاني بدوره من أزمة لا تبدو هينة خلال المرحلة الحالية.
وقد تحولت القضية إلى محور رئيسي في التفاعلات التي جرت بين القوى السياسية التركية قبيل تنظيم الانتخابات في 14 مايو الجاري، خاصة في ظل تبني أحزاب يمينية توجهات معادية للاجئين على غرار حزب “الظفر”. وهنا، فإن ثمة تساؤلات سوف تبقى عالقة بين الطرفين وستطرح خلال الاجتماعات القادمة حول آليات إعادة هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين، والمناطق التي سوف يتم إعادتهم إليها، خاصة أن كثيراً من المحافظات والمدن السورية ما زالت تعاني من انهيار البنية التحتية التي دمرت بفعل استمرار الصراع المسلح لنحو عقد من الزمان.
وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإنه حتى في حالة توافر الآليات والمناطق التي سيعود إليها اللاجئون، فإن النظام السوري نفسه لن يقبل بسهولة بإعادتهم، حيث إنه قد يربط ذلك بتوافر شروط أخرى، مثل الحصول على اعتراف دولي بوجوده في السلطة، بما يعني أنه ربما يرى أن الخيار الذي يتوافق مع حساباته في المرحلة الحالية يكمن في استمرار اللاجئين في الدول التي تستضيفهم كورقة ضغط يمكن استخدامها في مرحلة لاحقة.
2- الوجود العسكري التركي في شمال سوريا: وهو وجود تعتبره سوريا “احتلالاً” باعتبار أن القوات التركية لم تدخل إلى الأراضي السورية بناءً على طلب من الحكومة في دمشق، على غرار ما حدث بالنسبة للقوات الروسية والإيرانية، وهو التصنيف نفسه الذي تتبناه روسيا وإيران وإن كانتا لا تحصرانه في الوجود العسكري التركي، وإنما تحرصان على توسيعه ليشمل الوجود العسكري الأمريكي أيضاً الذي أصبح بدوره محور اهتمام موسكو في إطار إدارة صراعها مع القوى الغربية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وهنا، فإن النظام السوري ما زال مصراً على ضرورة سحب القوات التركية من الأراضي السورية قبل الانخراط في عملية تطبيع بين الطرفين.
وقدعبّر الرئيس السوري بشار الأسد عن هذه المقاربة خلال زيارته لموسكو ولقائه الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في 16 مارس الماضي، عندما ربط ترتيب لقاء بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإنهاء الوجود العسكري التركي، حيث قال إنه “سيلتقي بالرئيس التركي، فقط، عندما تظهر تركيا أنها مستعدة بوضوح ودون أي غموض لمغادرة الأراضي السورية، ووقف الإرهاب، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب في سوريا”. وبالطبع، فإن تركيا لن تجري أي تغيير في سياستها إزاء التطورات التي تشهدها الساحة السورية إلا في حالة الوصول إلى ترتيبات أمنية تستطيع من خلالها احتواء أية تهديدات قد يفرضها استمرار نشاط المليشيات الكردية المسلحة بالقرب من حدودها، خاصة فيما يتعلق بإقامة منطقة آمنة بعمق 30 كم داخل الأراضي السورية.
3- الموقف من مشكلة إدلب: وهو ملف شائك لم يتم حسمه حتى الآن، بل إنه قد يتحول إلى ما يمكن تسميته بـ”الملف الملغوم” في ظل سيطرة التنظيمات الإرهابية والفصائل المسلحة على محافظة إدلب، التي تحولت إلى “منطقة آمنة” بالنسبة لعناصر هذه التنظيمات، خاصة بعد توقيع اتفاقيات خفض التصعيد في العديد من المناطق السورية خلال المرحلة الماضية. وهنا، فإن آليات التعامل مع هذا الملف تبقى محل تباين بين تركيا وسوريا، حيث يسعى النظام إلى تبني الحل الأمني، وهو ما ترفضه الأولى في ظل علاقاتها القوية مع بعض تلك الجماعات، والتي دفعتها إلى التدخل لدى روسيا من أجل تجنب استخدام الخيار العسكري في التعامل مع هذا الملف.
4- آليات التعامل مع الأكراد: بدأت تركيا بدورها في توجيه رسائل إلى النظام السوري والقوى المعنية بأن تقاربها مع النظام لن يكون “بلا ثمن”، حيث اشترطت ضرورة توضيح موقف النظام من المليشيات الكردية، لا سيما حزب العمال الكردستاني ومليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تصنفها باعتبارها منظمات إرهابية. ويعكس ذلك، في قسم منه، أحد محاور المقاربة التركية إزاء التقارب مع النظام السوري، والذي يتعلق بأن هذا التقارب لا يستقيم في حالة ما إذا لم يَتَبَنَّ النظام سياسة تتوافق مع حساباتها ومواقفها من تلك المنظمات، خاصة في ظل التوتر والتصعيد المستمر بين أنقرة وتلك المنظمات، والذي يتوقع أن يتواصل في ظل العمليات العسكرية التي تواصل الأولى شنها داخل كل من العراق وسوريا لـ”تحييد” بعض قادتها وعناصرها.
حدود التغيير
في ضوء ذلك، يمكن القول -في النهاية- إن مهمة الوصول إلى تفاهمات بين تركيا والنظام السوري تمهيداً لتطبيع العلاقات بين الطرفين لن تكون سهلة، في ظل استمرار تلك القضايا العالقة بين الطرفين، والتي تفرض ضغوطاً متبادلة وتضع حدوداً للمدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه التفاهمات على الأقل في المدى القريب. وبالتالي، فإن اتفاق وزراء الخارجية في اجتماع موسكو على أن يقوم نوابهم بوضع “خارطة طريق” لتطوير العلاقات بين سوريا وتركيا يبدو أنه يمثل بداية طريق طويل من المفاوضات بين الطرفين للوصول إلى تسوية لهذه الخلافات.