الثقافة العربية حائرة بين مفهومين متناقضين للدولة؛ فى أولهما، الدولة تعنى التداول والتغير والتحول، والانتقال من حالة الى أخرى، وهذا المفهوم يستمد دلالته من المعنى اللغوى للدولة المشتق من التداول، وهو المتوارث من التجربة التاريخية التى امتدت الى بدايات القرن العشرين. وهو ذات المعنى الذى استخدمه عبدالرحمن بن خلدون المتوفى 1406م، فى مقدمته، فكل دلالات مفهوم الدولة عند ابن خلدون كانت تشير الى الاسر الحاكمة، وتعنى التداول بين هذه الأسر، التى كانت تحل إحداها محل الأخرى، لذلك عندما نقل المستشرق الألمانى فرانز رزونتال المقدمة الى الإنجليزية ترجم مفهوم الدولة الى المصطلح الإنجليزى Dynasty، والذى يعنى العائلة أو الاسرة الحاكمة. والمفهوم الثانى للدولة فى الثقافة العربية المعاصرة يعنى الثبات والاستقرار والديمومة، وهو ترجمة للمصطلح الإنجليزى State، وهو المعنى المتعارف عليه فى جميع العالم اليوم، والذى بنى عليه القانون الدولى، وتأسست على منظمة الأمم المتحدة وقامت عليه العلاقات بين الدول.
لذلك فإن مفهوم الدول لم يستقر فى الوعى الجمعى العربى، ولم يتجذر فى الثقافة العربية المعاصرة بالصورة التى تجعل للدولة منطقا لا يمكن تجاوزه، أو التعدى عليه، وتجعل هذا الكيان السياسى موضع قدسية؛ لأنه مستودع الانتماء والولاء، والكينونة الوجودية للمجتمع، والإطار الحارس لحريات، وحقوق الأفراد، والتجسيد العملى للهوية. هذه الحالة لم تصل اليها معظم المجتمعات العربية قديمها وحديثها، فهناك دائما انتماءات دون الدولة تناطحها، وانتماءات فوق الدولة تنافسها؛ هناك الانتماء العرقى، أو الطائفى، أو اللغوى، أو المذهبى دون الدولة، ويعلو الانتماء له على الولاء للدولة، وهناك الدعوات القومية، والأممية، والدينية التى تحاول تجاوز الدولة الى كيان أكبر منها. وهنا لابد من التوضيح السريع أن تجارب الوحدة فى المناطق الأخرى من العالم لم تكن ابداً تهدف الى إلغاء الدولة، حتى تجربة الاتحاد الفيدرالى الأمريكى لم تلغ الانتماء للولايات، والخضوع لقوانينها.
مع هذه الأزمة فى الثقافة السياسية العربية، والتى لم تسمح لمفهوم الدولة بالتجذر فى الوعى الجمعى بدأت تظهر عوامل أخرى تنال من استقرار فكرة الدولة، بل تعمل بكل قوة على النحت فيه وتآكله، وإخضاعه لكل عوامل التعرية التى تنخر فى جسده. فمع احتلال العراق 2003 بدأ التآكل فى اهم مكونات فكرة الدولة، وهى مفهوم السيادة، ومفهوم التكامل القومى، أو الوطنى للدولة، والمؤسسات الرمزية الحافظة لكيان الدولة ووحدتها، فمفهوم السيادة نالت منه كثير من التدخلات غير الشرعية، والتكامل الوطنى تراجع كثيرا وعلت عليه وتجاوزته مفاهيم الطائفية، والعرقية، والدينية، وصارت الدولة مجرد منصة لتصارع أو تعاون هذه المكونات، ولم تعد هى المعبر الوحيد عن إرادة الشعب، والمحتكر الوحيد لاستخدام السلطة والقوة، والكيان الوحيد الذى يستحوذ على الولاء والانتماء. وكذلك تم التخلص من الجيش الوطنى وتفكيكه بقرارات من حاكم أجنبى بناء على نصيحة من مرجع دينى، وبذلك عادت الدولة الى مرحلة التأسيس، وكأنها لم تكن موجودة أصلا.
ومع تحقق نظرية الفوضى الخلاقة بثورات الربيع العربى المشئوم، تبنى الناشطون السياسيون العرب من كل التيارات شعارات الديمقراطية، ووظفوها لتفكيك الدولة، وتمزيق المجتمع والقضاء على المؤسسات الوطنية الجامعة، فتكرر ما حدث فى العراق مع الاحتلال الأمريكى، ولكن بأياد وطنية ترفع شعارات الديمقراطية والحكم المدنى، حدث ذلك فى سوريا، حيث ضحى دعاة الديمقراطية، والحكم المدنى بكل مفاهيم السيادة، والتكامل الوطنى، وتعاونوا مع دول أخرى لتنال من سيادة دولتهم، ومزقوا المجتمع وشتتوه بين انتماءات عرقية وطائفية وحزبية، وتم استهداف الجيش، وتكرر نفى الأمر فى اليمن وفى ليبيا، وهناك محاولة متأخرة لتنفيذه فى السودان تحت نفس شعارات الديمقراطية والحكم المدنى.
وفى خضم كل ذلك نجت مصر وتونس بفضل التقاليد العسكرية الصارمة التى حافظت على تماسك المؤسسة العسكرية، واستعصائها على التطويع لكل المحاولات التى قام بها من قطف ثمار الربيع العربية لفترة محدودة، وحاول تفكيك الدولة بعد أن تخلص من شعارات الديمقراطية والحكم المدنى التى وصلت به الى سدة الحكم، فقد نجح الشعب بوعيه التاريخى فى الدولتين فى إدراك خطورة الحكومات التى شكلها تنظيم الإخوان الذى لم يؤمن يوما بالدولة، ويراها عائقا فى طريق مشروعه الذى لن يكتمل إلا بالقضاء على فكرة الدولة، وتفكيكها من أجل إعادة مؤسسة تاريخية اسمها الخلافة. إن أخطر مؤشرات تآكل فكرة الدولة هى الاجماع الذى نشاهده الآن على عدم إدراك منطق الدولة، وعدم الالتزام بهذا المنطق، وعدم احترامه، فمنطق الدولة يقول إن مؤسسات الدولة لا تعرف التعدد، ولا الثنائية، ولا التصارع، فكل قطاع من قطاعات الحياة له مؤسسة واحدة هى من تفوض اليه سلطة الدولة، وسيادة الدولة؛ بحيث يستحيل أن تكون هناك مؤسستان متنافستان للتعليم أو الشرطة أو القضاء؛ كما يستحيل أن يكون هناك جيشان لدولة واحدة. ومن مؤشرات تآكل فكرة الدولة، وعدم إدراك منطق الدولة ان يتم المساواة لأى سبب من الأسباب بين مؤسسة تمثل الدولة، وأخرى لا تمثل الدولة، أو كيان خارج عن القانون والنظام، وبين سلطات إنفاذ القانون، والحفاظ على النظام، فهذا هو ذات المنطق الذى طالب به الدكتور محمد مرسى بالمحافظة على أرواح الخاطفين والمخطوفين، فساوى بوعى أو بدون وعى بين الخارجين على الدولة، وبين المدافعين عن الدولة، وقدم الخارجين على المدافعين.
نقلا عن الأهرام