يقترب موعد الانتخابات التركية المقرر عقدها فى 14 مايو 2023 ومعها تزداد حاجة الرئيس التركى أردوغان وحزبه الحاكم منذ 2002 إلى بعض المؤشرات الإيجابية على الصعيدين الداخلى والخارجى لتحسين فرصهم للفوز بتلك الانتخابات التى تأتى بالضبط بعد مائة عام من إنشاء أتاتورك للجمهورية التركية على أسس علمانية وتخلصه من عباءة السلطنة العثمانية التى اتهمها وتراثها الدينى بأنها كانت سبب هزيمة الإمبراطورية وتخلف الدولة.
وبعد نجاحات متتالية طوال عشرين عاما فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، يواجه أردوغان اليوم معارضة نجحت لأول مرة فى توحيد صفوفها ضده والاتفاق على مرشح رئاسى واحد هو زعيم حزب الشعب الجمهورى أكبر الأحزاب التركية المعارضة وتؤيده الأقلية الكردية وأحزاب أصغر يرأس بعضها أنصار سابقون لأردوغان مثل أحمد داود أوغلو وعلى باباجان. وتشير استطلاعات الرأى المحايدة حتى الآن إلى أنه سيكون سباقا انتخابيا حاميا يهدد أردوغان وحزبه ربما لأول مرة خلال العقدين الماضيين بخسارة كل من الرئاسة والأغلبية البرلمانية أو إحداهما على الأقل. ولا شك أن الأزمة الاقتصادية التركية وتأخر المساعدات الحكومية فى الوصول لضحايا الزلزال الأخير وزيادة أعباء استضافة اللاجئين السوريين قد أسهمت جميعها فى تناقص التأييد لإردوغان وحزبه.
وقد حاول إردوغان أيضا إصلاح علاقاته بالدول العربية التى ناصبها العداء بسبب تأييده للإخوان المسلمين ومراهنته على وصول الإسلام السياسى لسدة الحكم فى دول الربيع العربى وغيرها. وسعى لأن تؤدى عودة العلاقات التركية مع السعودية والإمارات إلى مجاريها لأن تساعده الدولتان للخروج من الأزمة الاقتصادية وأن يحرم تطبيع علاقاته مع مصر معارضيه الأتراك من حجة انتقادهم له بأنه غلّب تعاطفه مع الإخوان المسلمين على المصالح التركية الإستراتيجية مع دولة هامة مثل مصر.
ورغم تدهور العلاقات السياسية بين مصر وتركيا منذ عام 2013 فإن البلدين حافظا على نمو العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما، ولكن لم تتم خطوات التطبيع التركى على المسار المصرى بنفس سرعة المسارين السعودى والإماراتى كما كان يطمح الرئيس التركى، وذلك بسبب موضوعات ثنائية وإقليمية عالقة كان المسئولون المصريون يرغبون فى أن يروا فيها تحركا تركيا على الأرض قبل اكتمال تطبيع العلاقات.
وبعد اجتماعين استكشافيين على مستوى نواب وزراء الخارجية، اجتمع رئيسا الدولتين فى الدوحة على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم فى نوفمبر الماضى واتفقا على رفع مستوى المشاورات إلى وزراء الخارجية وإعطاء دفعة للتقارب وحل الموضوعات العالقة. وتمت ترجمة ذلك فى زيارة وزير خارجية مصر لتركيا فى نهاية الشهر الماضى وأعقبها منذ أسبوعين زيارة لنظيره التركى للقاهرة. والمنتظر أن يقوم وزير خارجية مصر بزيارة أخرى لتركيا قبل نهاية هذا الأسبوع.
وتطرح المرحلة الراهنة من تطور العلاقات بين البلدين على بساط البحث أمام صانع القرار المصرى عدة قضايا ثنائية وإقليمية تستدعى مناقشتها ودراستها وبحث تداعياتها على المصالح المصرية. وسوف أحاول هنا تقديم بعض التوصيات لتعظيم الاستفادة المصرية من التحسن المتوقع فى العلاقات مع تركيا بغض النظر عن نتيجة الانتخابات سواء فى حالة فوز المعارضة التى تؤيد تقاربا وثيقا مع مصر أو فوز أردوغان الذى سيزول عنه الحرج أمام مؤيديه من الإسلاميين عندما يتراجع عما ردده لهم من شعارات فى السنوات العشر الماضية.
أولا: الموضوعات الإقليمية:
بسبب الانتقال الذى يشهده النظام الدولى من هيمنة الأحادية القطبية الأمريكية إلى التنافس متعدد الأقطاب، تزداد أهمية وثقل القوى الإقليمية الأكبر ومن بينها تركيا فى التأثير على العديد من القضايا الإقليمية. وقد استثمرت تركيا اقتصاديا وعسكريا فى العديد من مناطق النزاع حولنا مما منحها نفوذا كبيرا فى تلك المناطق والتى يهمنا منها فى رأيى ثلاثا هى ليبيا وإثيوبيا وسوريا.
1ــ ليبيا
من الواضح أن الولايات المتحدة وأطرافا أوروبية عديدة يغيرون الآن من سياساتهم التى كانت تمنح تركيا تفويضا لموازنة الوجود الروسى فى ليبيا وينتقلون تدريجيا لسياسة تشجع على إيجاد حل وسط سياسى بين الشرق والغرب يمكن معه السيطرة على ثروات النفط والغاز الليبية التى زادت أهميتها بسبب الحرب الأوكرانية والقرب الجغرافى من الأسواق الأوروبية. ولهذا شهدنا مبادرة أمريكية وأخرى من مبعوث الأمم المتحدة لا يجب أن نكتفى برفضها وإنما نقدم ما نراه من تعديلات عليها لكى تكون مقبولة لنا وتحقق مصالحنا. ويمكن أن نصل لتفاهم مع المسئولين الأتراك حول موقف مشترك منها.
وقد أدى نقل روسيا لآلاف من مرتزقة فاجنر من ليبيا إلى أوكرانيا وحاجة روسيا لنقل المزيد منهم فى نفس الاتجاه إلى تزايد إمكانية التوصل لاتفاق مصرى ــ تركى ــ روسى لكل قوات المرتزقة من ليبيا. وسوف يبقى بعد ذلك نحو ألف جندى نظامى تركى ومثلهم من الروس على الأراضى الليبية. وأرى أن نترك التعامل مع هؤلاء للحكومة الليبية الجديدة التى سوف تتشكل إذا ما تم التوصل لحل سياسى توافقى.
ولاشك أن كلا من مصر وتركيا لن تتخلى عن حلفائهما الليبيين ولا عن نصيبهما العادل فى الثروات الليبية وثقلهما النسبى فى تشكيل الحكومة الجديدة. ولن تحتاج مصر لأن تغير موقفها الرافض للاتفاقيات التى عقدتها حكومتا السراج والدبيبة مع تركيا حول الحدود البحرية أو استغلال تركيا لحقول النفط والغاز الليبية. ويمكن لمصر الوصول لتفاهم مع تركيا يسهل الوصول لحل سياسى ليبى ويمكن الأطراف الليبية من تشكيل حكومة جديدة مع مراعاة المصالح المصرية والتركية والغربية والروسية فى نفس الوقت.
2ــ سد النهضة
تعد تركيا ثانى أكبر مستثمر فى إثيوبيا بعد الصين وتعمل أكثر من 200 شركة تركية فى اثيوبيا التى تتلقى من تركيا أيضا مساعدات عسكرية ساعدت حكومتها على حسم الحرب الأهلية الأخيرة لصالحها. وقد عرضت تركيا التوسط بين السودان وإثيوبيا لحل نزاعات الحدود بين البلدين. وأرى أن تركيا يمكن أن تسهم مع بقية الدول التى توسطها مصر فى اقناع الحكومة الاثيوبية بقبول حل وسط مع مصر حول مشكلة سد النهضة.
3ــ شرق المتوسط
وفى المقابل يمكن لمصر الاستفادة من علاقات التحالف التى اقامتها فى شرق المتوسط مع كل من اليونان وقبرص من أجل الوصول لصياغة عملية تمكن تركيا من الحصول على نصيب من الغاز فى المياه التى تفصل بينها وبين البلدين دون الدخول فى مهاترات قانونية حول اتفاقيات قائمة منذ أكثر من مائة عام وانتظارا لحسم النزاع على قبرص التركية التى لا تعترف بها الغالبية العظمى من دول العالم. ويدور فى ذهنى هنا نموذج الاتفاق اللبنانى الإسرائيلى الذى تم التوصل اليه لتقسيم حقول الغاز البحرية بينهما بوساطة أمريكية ومساعدة من شركات الغاز الفرنسية والإيطالية ودولة قطر دون أن يكون بين الدولتين حتى علاقات دبلوماسية.
ويمكن لتطبيع العلاقات مع تركيا وتطوير التعاون مع حكومة بشار الأسد أن يفتح الباب أمام مصر للمشاركة فى مفاوضات الأستانة للوصول لتسوية سلمية للحرب فى سوريا وحل مشكلة اللاجئين والتوصل لضمانات أمنية دولية فى الشمال السورى.
ثانيا: العلاقات الثنائية:
1ــ على المستوى الثنائى يمكن إحياء اتفاق خط ائتمان تركى قيمته كانت مليار دولار بفائدة ضئيلة Libor لم تستفد مصر منه لتمويل صادرات ومشروعات تركية نظرا لأن التوقيع عليه تم قبيل الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين. وكان هناك اتفاقات جاهزة لاستثمارات تركية فى مصر فى مجالات تدوير النفايات الصلبة ودور شركات القطاع الخاص فى حل مشكلة العشوائيات. وكذلك كان هناك اتفاق بين أردوغان والرئيس السيسى (حين كان وزيرا للدفاع فى مايو 2013) على فتح خط ائتمان تركى مماثل قيمته 200 مليون دولار لتمويل مبيعات الأسلحة التركية لمصر ومشروعات الإنتاج العسكرى المشترك بين البلدين والتى تجمدت أيضا منذ هذا التاريخ ويمكن النظر فى استئنافها.
2ــ ويمكن لمصر الاستفادة من خبرة رجال الأعمال الأتراك فى صناعة النسيج فى مصر وتصديره إلى الأسواق الأمريكية والإفريقية بمئات الملايين من الدولارات. وأقترح شراكة مع هؤلاء لحل مشكلة مصانع نسيج القطاع العام المصرى.
3ــ ويستخدم المصنعون الأتراك فى مصر الغاز والأيدى العاملة الرخيصة فى مصر، ويبيعون انتاجهم للسوق المصرية الكبيرة والأسواق الأمريكية والإفريقية والعربية التى تتمتع فيها مصر بمزايا واعفاءات جمركية كبيرة. ويقدمون نموذجا جاذبا لمزيد من الاستثمارات التركية فى مصر. وفى نفس الوقت زادت قيمة صادراتنا من الغاز المسال إلى تركيا عن 2 مليار دولار فى العامين الماضيين. ولعلنا نحتاج إلى تحديد أولوياتنا والجدوى الاقتصادية من كل من الخيارين: استخدام الغاز لتوطين الصناعة أم تصديره.
4ــ وفى عام، 2011 كان خط الغاز العربى الذى يبدأ فى مصر ويمر بالأردن وإسرائيل وسوريا ينقصه نحو مائة كيلومتر لكى يصل الأراضى التركية. ونعد الآن لاستخدام هذا الخط لتوفير الغاز المصرى للبنان وندرس أن يتم استخدامه فى الاتجاهين وهو ما يفتح الباب على المدى الطويل لربطه بالشبكة التركية التى سوف تتلقى كميات كبيرة من الغاز الروسى خلال السنوات القليلة القادمة.
5ــ وقد سبق أن أوقفت مصر لأسباب أمنية الخط البحرى للنقل بالشاحنات RORO بين الموانئ التركية والمصرية على البحر المتوسط حيث كانت تلك الشاحنات تنقل البضائع التركية والأوروبية إلى الخليج العربى عن طريق مصر بعد أن تسببت الحرب السورية فى إغلاق الطريق البرى عبر سوريا. ونقل الأتراك ذلك الخط البحرى إلى ميناء حيفا الإسرائيلى لكى تنطلق منه الشاحنات عبر الأردن إلى الخليج. وإذا ما ثبت للجهات المصرية المختصة الجدوى الاقتصادية من استئناف هذا الخط عن طريق الموانئ والطرق المصرية يجب أن نستفيد من تلك الشاحنات فى طريق عودتها إلى تركيا ومنها للأسواق الأوروبية لكى نشحن عليها الصادرات المصرية لتلك الأسواق.
6ــ ويمثل التعاون الثقافى جانبا هاما من فرص تسويق الإنتاج الأدبى والفنى المصرى فى السوق التركية الكبيرة فتركيا ذات الـ 85 مليون تركى تنتج 88 ألف كتاب فى جميع المجالات كل عام فى حين أن مصر تنتج 22 ألف كتاب سنويا وبقية العرب ينتجون 18 ألف كتاب، أى أن 300 مليون عربى يقرأون كل عام أقل من نصف عدد الكتب التى يقرأها 85 مليون تركى. ويحتاج الأمر إلى تنشيط حركة الترجمة الأدبية والفنية من اللغة العربية إلى التركية. وأرى أن الأفلام والمسلسلات المصرية يمكن أن تحظى بإقبال تركى يناظر ذلك الذى تتمتع به المسلسلات والأفلام التركية فى العالم العربى.
7ــ وكذلك يقبل الأتراك على إرسال أبنائهم لتعلم اللغة العربية والدين الإسلامى فى الأزهر وبقية الجامعات المصرية ولكن تضاءل عدد أولئك الدارسين فى العقدين الماضيين بسبب تدهور مستوى التعليم فى تلك الجامعات والتمسك بتدريس مناهج لا تتلاءم مع العصر وعدم وجود مدن جامعية نظيفة وصحية بالمستويات الدولية. وأرى أن الاهتمام بحل تلك المشكلات ممكن أن يعيد الجامعات المصرية على قائمة الجامعات المضيفة فى الشرق الأوسط المتنافسة على هذا النشاط الهام الذى يوفر عوائد اقتصادية وسياحية وعلمية. فقد تقدمت بعض دول الخليج أخيرا على مصر فى عدد براءات الاختراع التى انتجها على أراضيها طلاب وأساتذة معظمهم من الأجانب.
وأخيرا فإن تطوير العلاقات المصرية التركية يحتاج إلى مقاربة شاملة تشارك فيها كل أجهزة الدولة ومراكز البحث لرسم استراتيجية متكاملة تنتهى إلى طرح مبادرات وأفكار مصرية سواء على المستوى الثنائى أو الإقليمى وعدم الاكتفاء بالرد على التحركات والمبادرات التركية.
نقلا عن الشروق