لقد ذهبت إسرائيل إلى مواجهة جديدة ضد الفلسطينيين، في الأسبوع الماضى، حين اقتحمت قواتها باحات المسجد الأقصى، واعتدت على المصلين، واعتقلت عددا منهم، لتنطلق الصواريخ من الجانبين، وتأخذ الأوضاع منحى تصاعديا، وسط مزيد من التوتر والاحتقان ونذر الانفجار.
وكما هو متوقع، فقد انطلقت الإدانات والأصوات المنددة والشاجبة من منابر العالم العربى السياسية، برفقة تحذيرات دولية وأممية، رأت أن النهج الإسرائيلى يمكن أن يفاقم المخاطر، ويجر المنطقة إلى مواجهة واسعة جديدة قد تكلفها الكثير.
ولأن كثيرا من التحليلات والتقديرات التي استهدفت معالجة الوقائع الأخيرة أشارت بوضوح إلى أن النهج العدوانى الإسرائيلى يرجع، على الأرجح، لمحاولة الحكومة الإسرائيلية، الموصوفة بـ «الأكثر يمينية»، تشتيت الضغوط الواقعة عليها، في ظل أزمة سياسية محتدمة تستهدف نتنياهو وسياساته، فإن معظم الخطاب الدولى المتقاطع مع الأحداث حمّل إسرائيل المسؤولية عن تفاقمها ولو ضمنيًا.
والواقع أن الإعلام الدولى لم يُقصر في نقل الأحداث ومحاولة شرحها للجمهور، وتلك حقيقة يصعب دحضها، لكن الأولوية التي احتلتها القصة وتداعياتها الخطيرة في معظم وسائل الإعلام العربية المحلية لم تكن متقدمة، كما أن المساحات التي خُصصت لها لا تعكس الاهتمام التقليدى بالقضية الفلسطينية في العالم العربى، كما كان سائدا في العقود السابقة.
يُضاف إلى ذلك تراجع كبير وملحوظ في عدد مقالات الرأى، والتحليلات، والبرامج الحوارية التي تستهدف شرح التطورات المُتصلة بالنزاع، وهو أمر لا يشبه ما كان يجرى عادة قبل عقد الانتفاضات العربية والتحولات السياسية العميقة التي أعقبتها على صعد السياسة الخارجية والداخلية في بلدان الانتفاضات وغيرها.
.. أما الشارع العربى، فعندما تُعقد المقارنة بين ما كان يجرى فيه بموازاة مثل تلك الأحداث في العقود السابقة، وما يصدر عنه اليوم، فستكون النتيجة واضحة، إذ تراجع اهتمام الشارع بالقضية الفلسطينية تراجعا ملحوظا، أو على الأقل لم يُظهر رد الفعل الذي عهدناه على مدى العقود الستة التي سبقت عقد الانتفاضات منذ إنشاء دولة إسرائيل وبدء حلقات الصراع ومآسيه المتكررة.
يبدو من تحليل ردود الفعل، وحجم الانشغال العمومى، والتفاعل الشعبى، أن القضية الفلسطينية تراجعت سياسيا وإعلاميا تراجعا جوهريا، كما تراجعت على مستوى الإدراك والتفاعل الشعبيين، وهو أمر يكبد تلك القضية خسائر كبيرة، ويعرقل تحقيق أهداف الشعب الفلسطينى في الاستقلال والكرامة.
لا يمكن فصل ذلك التراجع عن تحولات سياسية عميقة جرت في بلدان العالم العربى وأثرت في شعوبها، وبعض هذه التحولات يتعلق بنهج سياسى جديد اتخذته بعض الحكومات التي أعادت صياغة مقاربتها للنزاع وفقاً لرؤى جديدة عكست جرأة وحققت اختراقات.
أما بعضها الآخر، فيتصل باستخلاص عمومى يبدو أنه ساد في المنطقة، ومفاده أن الدول والشعوب التي أفرطت في المساندة الشكلية والشعورية لـ «القضية» كانت الأقل قدرة على التأثير في مجرياتها من جانب، والأكثر هشاشة في مواجهة ضربات ما عُرف بـ «الربيع العربى» من جانب آخر.
فإذا نظرنا إلى الخريطة العربية ابتداء من الغرب، لوجدنا أن المغرب العربى بدوله المختلفة كان يعطى أولوية ويبذل اهتماما واضحا بالقضية الفلسطينية، لكن هذا الأمر لا يبدو واضحا الآن، بعدما باتت هذه الدول أكثر انشغالا بقضايا أخرى.
أما ليبيا التي كانت تملأ الدنيا صخبا بدفاعها المفترض عن القدس والقضية الفلسطينية، حتى ولو كان هذا الدفاع يتخذ صورا إعلامية وشكلية فقط في معظم الأحيان، وهزليا في بعضها، فإنها لم تعد الآن قادرة على التفكير في غير أزمتها الكارثية.
فإذا انتقلنا إلى السودان، وقد كان مناصرا تقليدياً للقضية الفلسطينية، حيث اتخذها النظام السابق مطية للتغطية على اعتوارات أدائه من جانب، وطريقة لتعزيز نفوذه بين أنصاره من «الإسلامويين» من جانب آخر، فقد أدى انشغال السياسة والمجتمع في هذا البلد الشقيق بأزماته الداخلية إلى التغطية على القضية الفلسطينية وإضعاف الاهتمام بها.
وبالطبع، يصعب جداً أن تؤدى سوريا دورا مؤثرا في الأحداث الجارية حاليا، حيث لا يُظهر شعبها اهتمامه التقليدى بالقضية الفلسطينية في ظل الانشغال بالأزمات الذاتية، وسيكون العراق طبعا بعيداً لسنوات طويلة عن القدرة على تسخير أي طاقة لموضوع ذى طبيعة قومية بسبب الانشغالات الداخلية المُلحة والشائكة في هذا البلد.
لقد تراجعت القضية الفلسطينية في الشارع والإعلام والسياسة العربية، بسبب ميراث من الأخطاء والتحولات، وهذا الأمر تدركه إسرائيل، وسيكون لذلك تأثير واضح في مستقبل الصراع.
نقلا عن المصري اليوم