تثبيت الشراكة:
لماذا تزايد التركيز الأوروبي على دعم تونس مالياً؟

تثبيت الشراكة:

لماذا تزايد التركيز الأوروبي على دعم تونس مالياً؟



شهدت العلاقات الأوروبية-التونسية مؤخراً زخماً بدافع محاولة دعمها مالياً في مواجهة تراجع اقتصادها، حيث انصبّ التركيز في الأساس على محاولة تحفيز تونس، وفي الوقت نفسه الضغط عليها لتوقيع الاتفاق النهائي لبرنامج صندوق النقد الدولي، إضافة إلى أن المبادرة الأوروبية استهدفت بشكل ضمني تشجيع الدول الخليجية لتقديم دعم مالي لتونس في إطار الدعم المعزز لبرنامج الصندوق. ومن جانب آخر، يأتي التحرك الأوروبي في مواجهة محاولات الاستقطاب الروسية لتونس ضمن مخطط موسكو الأشمل لزيادة تواجدها الاقتصادي في القارة الأفريقية، وخاصة شمال القارة، الأمر الذي تستهدف منه بروكسل تثبيت شراكتها مع تونس نظراً لتقاطع مصالحها الحيوية معها.

فقد شهدت الفترة الأخيرة مواقف وزيارات أوروبية رسمية استهدفت دعم تونس مالياً في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها، وهو ما دلل عليه التالي:

مؤشرات كاشفة

1- إعلان إيطاليا تقديم أموال لدعم الاقتصاد التونسي: أعلن نائب رئيسة الوزراء ووزير الخارجية والتعاون الدولي الإيطالي “أنطونيو تاياني”، في 20 مارس 2023، أن “الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي” ستقدم نحو 110 ملايين يورو لدعم تونس، وكان قد أعرب في تصريح سابق أن روما ترغب في أن يفرج صندوق النقد الدولي عن قرض قيمته 1.9 مليار دولار لتونس، إذ تخشى أن يؤدي نقص السيولة إلى زعزعة استقرارها، وانطلاق موجة جديدة من المهاجرين نحو أوروبا.

2- استعداد فرنسا لتقديم تمويلات لتقليص عجز الموازنة التونسية: أكد “أندريه باران” السفير الفرنسي في تونس (في حديث نشرته “وكالة تونس أفريقيا للأنباء” في 25 مارس 2023)، أن باريس مستعدة لتقديم تمويلات لتلبية احتياجات تونس في عامي 2023 و2024، بما في ذلك 250 مليون يورو للمساهمة في تقليص عجز الموازنة، مقابل تنفيذ مخطط الإصلاحات الذي تم عرضه على صندوق النقد الدولي.

ويُشار إلى أن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ورئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” طلبا في 24 مارس 2023 (على هامش قمة زعماء الاتحاد الأوروبي) العمل على تقديم الدعم لتونس من أجل تخفيف ضغط الهجرة.

3- تأكيد المفوضية الأوروبية على تقديم مساعدات مالية تكميلية لتونس: كشف المفوض الأوروبي للاقتصاد “باولو جنتيلوني” في 27 مارس 2023 (أثناء زيارته الرسمية لتونس)، أن المفوضية الأوروبية مصممة على دعم تونس في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها، وهي مستعدة للنظر في تقديم مساعدة مالية تكميلية إذا تم استيفاء الشروط اللازمة، وأولها اعتماد صندوق النقد الدولي لبرنامج دعم جديد.

دوافع التحرك

تأتي التحركات الأوروبية المكثّفة لدعم تونس في ذلك التوقيت لعدد من الأسباب، فبخلاف الدوافع التقليدية المتمثلة في دعم الاستقرار والأمن في دول الجوار الجنوبي، ومواجهة الهجرة غير النظامية المتزايدة من الأراضي التونسية للقارة الأوروبية، وتعزيز النفوذ الأوروبي في تونس؛ هناك دوافع مستحدثة وعاجلة تقضي بضرورة دعم تونس مالياً على النحو التالي:

1- دفع تونس للموافقة على برنامج صندوق النقد الدولي: أعلن الصندوق، في 15 أكتوبر 2022، توصله لاتفاق مع تونس على مستوى الخبراء، تحصل الأخيرة بمقتضاه على دعم مالي بقيمة 1.9 مليار دولار على 4 سنوات لدعم اقتصادها ووضعه المالي؛ إلا أن تونس لم يتم إدراجها على جدول أعمال اجتماعات الصندوق منذ الاتفاق على برنامج الدعم، في دلالة على عدم التزامها بإصدار وتطبيق برنامج الإصلاح الذي اشترطه الصندوق مقابل تقديم الدعم المالي المتفق عليه، مما يصعب من عملية الإصلاح ويدفع اقتصادها لمزيد من التدهور، الأمر الذي حفّز شركاءها الأوروبيين لمحاولة إقناعها ببدء الإصلاح في أسرع وقت، وذلك في ضوء وجود نماذج لدول عربية تواجه مخاطر الانهيار مثل لبنان على خلفية عدم قدرتها على التوصل إلى اتفاق مع الصندوق لدعم اقتصادها.

جدير بالذكر أن تونس وضعت ميزانية 2023 على عدة فرضيات، منها الحصول على تمويل صندوق النقد الدولي (وفقاً لتصريح لوزيرة المالية التونسية “سهام البوغديري نمصيّ”)، بما يجعل تمويل الصندوق بنداً هاماً في مخصصات التمويل الأجنبي. ويُشار في هذا الصدد إلى أن الحكومة التونسية حددت بنود التمويــل لميزانية 2023 بنحو 7.8 مليارات دولار، منها نحو 4.9 مليارات دولار من الاقتراض الخارجي، بما يضع الاقتصاد التونسي في مأزق في حالة عدم النجاح في توفير ذلك المبلغ لسد فجوة التمويل الأجنبي، الأمر الذي قد يدفعها للاقتراض من الخارج بأسعار فائدة مرتفعة نظراً لتراجع تصنيفها الائتماني، واختناق سوق الدين العالمي، وبما يزيد الأعباء على الاقتصاد التونسي عبر زيادة أعباء الدين الخارجي، والذي بلغ نحو 128 مليار دينار تونسي في سبتمبر 2022 (وفقاً لبيانات البنك المركزي التونسي)، أي نحو 41.6 مليار دولار أمريكي (عند حسابه بسعر صرف 3.08 دينار/ دولار).

2- المبادرة بدعم تونس لتحفيز الدعم الخليجي: وفقاً لتقرير صادر عن وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني، في 3 مارس 2023، من المتوقع أن تقدم الدول الخليجية والأوروبية أكثر من 5 مليارات دولار لدعم تونس، وهو ما يمثل نحو 65% من حاجة تونس التمويلية في 2023، الأمر الذي يظل مرهوناً بموافقة صندوق النقد على دعم تونس، وبالتالي تتطلع بعض الدول الأوروبية لدعم تونس لعدة أسباب، منها تشجيع دول الخليج لإقراض تونس ومساعدتها مالياً، وحتى في حالة تأخر الاتفاق فقد تعزز المساعدات المالية الأوروبية والخليجية الاقتصاد التونسي، ولا سيما مؤشراته الآخذة في التراجع في ضوء استمرار الضغوط من تفشي جائحة (كوفيد-19) والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها، والتي أدت إلى ارتفاع معدل التضخم في تونس والدين الخارجي بشكل ملموس (انظر الجدول 1).

يُرى أن الدعم الأوروبي لتونس لا يمثل أزمة للدول المانحة نظراً لصغر حجم المبالغ المرصودة، فإيطاليا وفرنسا اللتان تعتبران أكثر دولتين متحمستين لدعم تونس تنويان تعزيز اقتصادها بـ360 مليون يورو، بينما أعلنت المفوضية الأوروبية عن تقديم مساعدة “تكميلية” لتونس، وتم رهن ذلك بموافقة صندوق النقد الدولي على الحزمة التمويلية لتونس، الأمر الذي لا يشجع تونس على تسريع تحركاتها لتحقيق الإصلاح المطلوب، خاصة وأن احتياطي النقد الأجنبي التونسي يعزز قدرة الدولة على الصمود لتلبية متطلباتها من الخارج، مما يوفر لها الأريحية في الانتظار للحصول على الدعم المالي المطلوب بأقل شروط ممكنة حتى لا تثير الرأي العام الداخلي ضد النظام الحاكم (انظر الشكل التالي).

شكل (1)

يكشف الشكل السابق أن احتياطي النقد الأجنبي التونسي، الذي بلغ نحو 7.8 مليارات دولار في يناير 2023، يستطيع تغطية 97 يوماً من الواردات، وهو الأمر الذي ساهم في صمود قيمة العملة المحلية التونسية أمام الصدمات المتعاقبة، سواء الداخلية أو الخارجية. وفي هذا الإطار، فإن دخول دول الخليج على خط دعم تونس مالياً، حتى لو عبر التعهد بتقديم دعم كبير بعد الموافقة النهائية على برنامج الصندوق، سيكون له أثر إيجابي على السلطات التونسية التي ستتشجع لاتخاذ إجراءات إصلاحية حاسمة لتوقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، وبما يضمن الحصول على متطلبات التمويل التي أعلنت عنها من خلال القروض الثنائية والمتعددة الأطراف خلال السنوات المقبلة.

3- تحسين العلاقة مع تونس في مواجهة الاستقطاب الروسي: سادت حالة من التوتر بين تونس والاتحاد الأوروبي مؤخراً عقب تصريح “جوزيب بوريل”، في 20 مارس 2023، بأن الوضع في تونس خطير للغاية، وأن الاتحاد يشعر بالقلق إزاء تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في تونس ويخشى انهيارها، وأن التكتل لا يمكنه مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي، الأمر الذي أدّى لانتقاد تونس بشكل رسمي تلك التصريحات، وأسفر عن ذلك وصول وفد من الاتحاد برئاسة “جون كوموان” المدير العام لمفاوضات الجوار لتونس في 21 مارس (بعد يوم من تصريحات “بوريل”) لاحتواء تنامي التوتر بين الجانبين، خاصة وأن هناك مصالح عديدة مع تونس على رأسها الشروع في تنفيذ كابل ربط كهربائي بين تونس وإيطاليا لتوفير طاقة للجانب الأوروبي، إضافة إلى ملف الهجرة غير الشرعية المحتمل تفاقمه الفترة المقبلة إثر تدهور الأوضاع في دول أفريقيا جنوب الصحراء.

تزامن توتر العلاقات الأوروبية-التونسية مع تحركات روسية تسعى من خلالها للتقارب مع الدول الأفريقية، دلل عليها تأكيد الرئيس “فلاديمير بوتين” في 20 مارس 2023 (أثناء كلمته في المؤتمر البرلماني الدولي الثاني “روسيا أفريقيا”) نية بلاده إلغاء ديون للدول الأفريقية تُقدر بـ20 مليار دولار، فضلاً عن إرسال الحبوب إلى أفريقيا بالمجان إذا لم يتم التوصل إلى تمديد اتفاق الحبوب مع أوكرانيا خلال 60 يوماً، وتُعد تونس إحدى الدول المستهدفة من التقارب مع روسيا، وذلك في ضوء تطور العلاقات التجارية بالفترة الأخيرة، وهو ما دلل عليه تصريح السفير الروسي لدى تونس “ألكسندر زولوتوف” (في فبراير 2023)، بأن حجم التجارة بين البلدين في عام 2022 ارتفع إلى 692 مليون دولار بنسبة 63% مقارنة بعام 2021، الأمر الذي يهدد بتنامي النفوذ الاقتصادي الروسي في شمال أفريقيا، مما يقوّض من تنامي المصالح الأوروبية مع دول المنطقة خاصة في قطاع الطاقة.

مناورات تونسية

في الختام، إن التحرك الأوروبي تجاه تونس لتثبيت علاقتهما في صورتها الطبيعية أخذ غطاء اقتصادياً ومالياً، مما يشير إلى أنه حتى بدون التوصل لاتفاق برنامج صندوق النقد الدولي قد تتجه الدول الأوروبية لدعم تونس اقتصادياً ومالياً تحت العديد من التسميات، وتوظف تونس حاجة الدول الأوروبية لها في العديد من الملفات الحيوية للحصول على أقصى قدر من المكاسب بدون تحميل الدولة أعباء اقتصادية ومالية جديدة بسبب برنامج الصندوق، مما يزيد من هامش المناورة التونسية للوصول لتفاهمات مع الجانب الأوروبي تضمن ذلك الهدف، كما أنها قد تدفع الدول الأوروبية لحث دول الخليج والمؤسسات المتعددة الأطراف لدعم اقتصاد تونس المتراجع خلال الأشهر المقبلة، لأن البديل سيكون في غير صالح القارة الأوروبية التي لا تزال تعاني من آثار الحرب الروسية – الأوكرانية، كما أن بروكسل لا تريد خسارة شركائها في جنوب المتوسط لاعتبارات استراتيجية.