في خضمّ مساعي المليشيا الحوثية المستمرة للتوسع والتغلغل ونشر أفكارها المتطرفة على مساحة أكبر، بجانب التمجيد والإعلاء من شأن زعيمها “عبدالملك الحوثي”، فقد اتجهت مؤخراً إلى توظيف التكنولوجيا لتحقيق مساعيها تلك، وبجانب منصاتها الإعلامية والحسابات الخاصة بقياداتها المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة؛ فقد وضعت الجماعة الانقلابية نصب أعينها على “التطبيقات الإلكترونية”، وأطلقت بواسطة مهندسين يمنيين موالين لها في 11 مارس 2023، ما أسمته تطبيق “البينات” على منصة جوجل بلاي Google paly، للقيام بهذه المهمة، بجانب أهداف أخرى، منها: توسيع القاعدة الجماهيرية للحوثيين، والتركيز على استقطاب الفئات الشبابية، وحشد مقاتلي الجماعة للمشاركة في شن عمليات عسكرية، والتأكيد على شرعية المليشيا الحوثية، واستغلال القضية الفلسطينية لتحسين صورتها الخارجية.
هناك تساؤل مثار على الساحة اليمنية مفاده: هل فكرة تدشين تطبيق إلكتروني يروج للفكر الحوثي “وليد اللحظة” لدى الجماعة الانقلابية؟ والإجابة بالطبع (لا)، لأنه سبق ودشنت المليشيا الانقلابية عدداً من التطبيقات الإلكترونية، لأغراض متعددة، من أبرزها ما يلي:
1- تطبيق “التيسير في التفسير”: كانت البداية في 11 يناير 2016، إذ أطلقت الجماعة الحوثية تطبيقاً أسمته “التيسير في التفسير”، للترويج لأفكار “بدر الدين الحوثي” (1926 – 2010) الزعيم الروحي للجماعة الزيدية المسلحة، وهو والد زعيم الحوثيين الحالي “عبد الملك الحوثي”، ويوجد كتاب لـ”بدر الحوثي” يحمل اسم التطبيق ذاته، الذي من المفترض أن مهمته تفسير سور القرآن الكريم، وقد حمّل هذا التطبيق من على متجر جوجل بلاي عقب انطلاقه أكثر من 10 آلاف شخص منهم ما يزيد على ألف شخص فقط من أعطوا تقييماً للتطبيق، الذي حصل على 4.7 من 5 نجوم، وهو تقييم مرتفع، إلا أن هذا ليس دليلاً بالضرورة على كفاءة التطبيق، حيث قد يكون المقيّمون جميعهم حوثيين ولذلك أعطوا درجات تقييم مرتفعة لجعل التطبيق مرئياً بدرجة كبيرة بين التطبيقات الأخرى، ومع ذلك أصبح هذا التطبيق غير متاح تحميله الآن لجميع الهواتف على متجر جوجل بلاي.
2- تطبيق “من هدي القرآن”: في 19 أبريل 2017، أطلقت المليشيا الانقلابية تطبيقاً آخر أطلقت عليه اسم “من هدي القرآن”، لحسين بدر الدين الحوثي (1959- 2004)، أحد زعماء الزيدية وقائد حركة الحوثيين في النزاع مع الحكومة اليمنية في صعدة، وهذا التطبيق يروج في البداية للأدوار التي قام بها “حسين الحوثي” ويعظم من شأنها ويحث من خلالها المواطنين على الانضمام للجماعة والجهاد، وفي الوقت ذاته ينشر دروساً ألقاها القيادي الحوثي عن بعض سور القرآن الكريم، هذا بالإضافة إلى احتواء التطبيق على الأحاديث التي سبق وألقاها “بدر” عن بعض القضايا، جاء منها درس بعنوان “متفرقات خطر دخول أمريكا إلى اليمن”، وآخر بعنوان “الصرخة في وجه المستكبرين”، وقد حمل هذا التطبيق من على متجر جوجل بلاي أكثر من 50 ألف شخص، منهم ما يزيد على 3 آلاف شخص فقط من أعطوا تقييماً للتطبيق، الذي حصل على 5 نجوم، ومع ذلك أصبح هذا التطبيق غير متاح تحميله الآن بجميع الهواتف على متجر جوجل بلاي.
3- تطبيق “ومضات”: في 29 نوفمبر 2017، اتجه الحوثي إلى تدشين تطبيق من نوع آخر يروج للفكر ذاته ولكن بطريقة مختلفة نوعاً ما، وأطلق عليه اسم “ومضات” أو “مسابقة ومضات”، وهو عبارة عن لعبة يتم فيها عرض أسئلة على الشخص تكون بمثابة مسابقة ثقافية تتكون من 32 مرحلة، يزعمون أن الهدف منها اختبار المعلومات العلمية والقرآنية والتاريخية وتقويتها، والتعرف على المسيرة الثورية لأبرز شخصيات المقاومة الإسلامية والعالمية، واكتشاف أبرز المعالم في الوطن العربي وأهم الأحداث في العالم (وفقاً لوصف التطبيق)، وحمله أكثر من ألف شخص ولكنه لم يحصل على أي تقييم، كما أنه أصبح غير متاح تحميله الآن لجميع الهواتف على متجر جوجل بلاي.
4- تطبيق “البينات”: وللترويج لفكر الزعيم الحالي للجماعة “عبدالملك الحوثي”، أطلق مهندسون يمنيون في 11 مارس 2023، على منصة جوجل بلاي، تطبيق “البينات”، ولكن قبل إطلاقه بعام وتحديداً في أبريل 2022، تم تدشين صفحات على منصات التواصل الاجتماعي (تويتر، فيسبوك، يوتيوب، تليجرام)، حملت اسم “شبكة البينات الثقافية”، تقوم بفكرة التطبيق الهادفة لنشر دروس وخطب وكلمات زعيم الحوثيين سواء الخاصة بالقضايا المحلية أو الإقليمية والدولية، إلا أن هذه الصفحات أُغلق بعضها والسبب هو “انتهاكها إرشادات الموقع”، ولكن بقي الموقع الخاص بالشبكة على منصة “تويتر”، وقد يكون هذا هو السبب في دفع الحوثي للتفكير في تدشين تطبيق إلكتروني يقوم بهذه المهمة، إضافة إلى إطلاق موقع إلكتروني يحمل اسم التطبيق ذاته، الذي حمله حتى الآن أكثر من 10 آلاف شخص ولكن لا يوجد له أي تقييم من قبل المستخدمين، إلا أن البعض طالب بضرورة إتاحة التطبيق على جميع أنواع الهواتف المحمولة.
وقد أثار هذا التطبيق ردود أفعال عديدة ما بين مرحبة وأخرى منتقدة، ففي أول رد على لسان المتحدث باسم الجماعة الانقلابية “محمد عبدالسلام”، قائلاً في تغريدة على حسابه بموقع “تويتر”: “(البيِّنات) تطبيق جديد يحتوي خطابات ومحاضرات السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي حفظه الله حول مختلف القضايا التي تشغل الأمة وبما يلبي تطلعاتها نحو استعادة مكانها ومكانتها بين الأمم”، في حين علّق رئيس المجلس السياسي الأعلى “محمد علي الحوثي” على التطبيق قائلاً: “هنا مرجع للباحث، ومعرفة لرؤيتنا، وتحدٍّ بإبراز متناقضات فيما قدمه القائد، لأن ما قدمه نتاج رؤية وارتباط بالقرآن”.
وعلى الجانب الآخر، فقد انتقد عدد من الناشطين اليمنيين هذا التطبيق، وقالوا إن الغرض منه سرقة أموال ومحتويات المواطنين، ودعوا إلى صرف مرتباتهم بدل هذه الخرافات (على حد وصفهم)، بينما ربط آخرون انطلاق التطبيق بالاتفاق السعودي الإيراني (قضى بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 10 مارس 2023)، لرؤيتهم أن ذلك ينم عن تخوف حوثي من حذف قنواتهم من الأقمار الصناعية بعد إبرام إيران (الداعمة لهم) اتفاقاً مع المملكة، إضافة لذلك فقد نشر بعض اليمنيين “رسوماً كاريكاتورية” للسخرية من هذا التطبيق.
أهداف حوثية
وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول إن هناك عدة أهداف ترغب من خلالها الجماعة الانقلابية في إطلاق مثل هذه التطبيقات بصفة مستمرة وبأشكال مختلفة، يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- الترويج لفكر المليشيا الحوثية المتطرف: إن الهدف الرئيسي من إطلاق هذه التطبيقات من وقت الزعيم الروحي للجماعة “بدر الدين الحوثي” وصولاً إلى القائد الحالي “عبدالملك الحوثي”، هو الترويج لفكر هذه الجماعة الانقلابية وغرسه في عقول أكبر شريحة ممكنة من الأفراد على نطاق أوسع تحت مزاعم أنها “الحاكم الشرعي” للدولة اليمنية، لذلك لم تكتفِ بمنصاتها الإعلامية، لإدراكها أن “التطبيقات الإلكترونية” مع التطور التكنولوجي الحالي باتت الوسيلة المفضلة بالنسبة للأشخاص وخاصة الشباب، ومن ثم فهذا هو المدخل المناسب لنشر أفكارها المنحرفة، وفي الوقت ذاته إسكات أية أصوات أخرى معارضة للجماعة، وهو ما يُفسر سبب قيام الأخيرة خلال السنوات الماضية بأمرين؛ أولهما تحذير المواطنين في مناطق سيطرتها من الانجرار وراء أية تطبيقات مدعومة من أطراف الصراع الأخرى، سواء التحالف أو الحكومة اليمنية الشرعية، كما قامت أواخر أكتوبر الماضي، بحظر عدد من التطبيقات الإلكترونية، وخاصة المعروفة بتطبيقات التواصل المرئي عبر تقنية الفيديو، منها (“زووم” و”جوجل ميت”، و”جوجل دو”، و”إيمو”)، وأفادت الجماعة بأن هذه التطبيقات تروج لأفكار غربية دخيلة على المجتمع اليمني، وتسعى لنشر أفكاره تلك والتجسس على اليمنيين.
2- التركيز على حشد مقاتلين واستقطاب الفئات الشبابية: تسلط الجماعة الحوثية من خلال هذه التطبيقات الضوء على توظيفها لصالح أعمالها القتالية والعسكرية، وذلك من خلال أمرين؛ أولهما حث المواطنين من خلال الكلمات والدروس التي يلقيها قادة الحوثي ويتم نشرها على التطبيق، على أهمية “القتال والجهاد في سبيل الله”، والتركيز على نشر الخطب التي تدعو المواطنين لذلك، تحت مسمى “العقيدة القتالية”، أما الأمر الثاني، فهو استدراج الشباب بل والأطفال للانضمام إلى القتال في صفوف المليشيا التي تكبدت خلال السنوات التسع الماضية خسائر جمة في الأرواح، وفقدت عدداً كبيراً من مسلحيها وقواتها البشرية التي تسعى لتقويتها مجدداً بفئات ذات أعمار محددة، خاصة أنه بالنظر إلى جميع التطبيقات التي دشنتها المليشيا نجدها تضع بند أن هذه التطبيقات تصلح لمن هم من عمر ثلاث سنوات فما فوق، وهو ما يؤكد على أنها تركز على تربية النشء على أفكارها واستقطابهم إلى التنظيم، ولذلك نجد صوراً كثيرة لأطفال يحملون أسلحة في مناطق سيطرة الجماعة.
3- البحث عن مصادر تمويلية وجمع معلومات استخباراتية: منذ الانقلاب الحوثي والسيطرة على العاصمة اليمنية صنعاء وعدد من المحافظات اليمنية، والجماعة الانقلابية تكثف جهودها من أجل جمع أموال من جيوب المواطنين تحت أي مسمى، سواء “جبايات” أو “إتاوات”، أو “زكاة” أو “دعم جبهات القتال”، ولأن التمويل يعد بمثابة “عنصر قوة” لاستمرار المليشيا الحوثية وفرض هيمنتها على البلاد والمواطنين، فإن البحث عن مصادر تمويلية جديدة يعد هدفاً رئيسياً في مخطط الجماعة التي تعول على “التطبيقات الإلكترونية” كي تساندها وتساعدها على تحقيق هذا الهدف. ومن ناحية أخرى، قد تستخدم الجماعة الحوثية هذه التطبيقات للقيام بأعمال استخباراتية، من خلال جميع البيانات الشخصية والوظيفية ليس فقط للمواطنين بمناطق سيطرتها ولكن لكل من يحمل هذا التطبيق على جهازه المحمول، ومن ثم استخدام هذه البيانات لأغراض متعلقة بالتجسس، وأعمال التزوير، هذا بجانب نهب الأموال العامة والخاصة، ويبدو أن الحوثيين على دراية كافية بتوظيف التطبيقات والبرامج الإلكترونية للقيام بهذه المهمة، لأنه في فبراير 2020، أصدرت وزارة الخدمة المدنية الحوثية بالعاصمة صنعاء بياناً حذرت فيه المواطنين بمناطق سيطرتها من تحميل تطبيقات غير قانونية، وهو ما أسمته “برامج تجسسية” تخدم مصالح أطراف الصراع الأخرى وتجمع بيانات منتسبي القطاع المدني الحوثي لتدميرها.
4- المتاجرة بالقضية الفلسطينية لتحسين صورتها الخارجية: بتصفح المنشور على بعض التطبيقات التي أطلقتها المليشيا الحوثية والخطب والكتابات الخاصة بـ”عبدالملك الحوثي”، نجد أنها تركز بشكل كبير على “القضية الفلسطينية” ومهاجمة إسرائيل، وإطلاق مزاعم بأن العرب غير مهتمين بحل هذه القضية التي تعد “قضية مركزية” بالنسبة للمنطقة العربية. ورغم أن الحوثي لطالما دأب في منصاته الإعلامية على الحديث عن القضية الفلسطينية والمتاجرة بها لتحقيق أهداف خاصة، إلا أنه أراد نشر الخطاب من خلال هذه التطبيقات على نطاق أوسع، لذلك كانت أولى الخطب التي تم تحميلها على تطبيق “البينات” عن القضية الفلسطينية، وفي الكلمة المنشورة وجه قائد الجماعة “انتقادات غير مباشرة” إلى الدول العربية التي وقعت اتفاقيات تطبيع مؤخراً مع إسرائيل، ومنها (الإمارات، البحرين)، قائلاً: “لا يمكن أن يكون هناك تطبيع مع إسرائيل على حساب القضية المركزية للأمة ومظلومية الشعب الفلسطيني وما يهدد المقدسات في فلسطين، ومعنى التطبيع مع إسرائيل الاعتراف بهذا العدو واقتطاعه لجزء من أرض الأمة الإسلامية”.
والهدف من ذلك أمران، أولهما، تحسين صورة الجماعة الانقلابية أمام المجتمع الخارجي والادعاء بأنه يرفض المساس بحقوق الشعب الفلسطيني، أما الأمر الثاني فهو حشد مزيد من المجندين للقتال وجمع الأموال لتسخيرها لمصلحة المجهود الحربي تحت مزاعم “نصرة القضية الفلسطينية”، إلا أن ما يفند مزاعم تلك الجماعة وتطبيقاتها أنها تطلق فقط أقاويل ولم تصل إلى “أفعال”، بمعنى أنها لم ترسل مقاتلين من صفوفها إلى الأراضي الفلسطينية للدفاع عن القضية المركزية.
عزلة يمنية
خلاصة القول، إن إطلاق “عبدالملك الحوثي” زعيم الانقلابيين، تطبيقاً إلكترونياً يروج لأفكاره الشيعية المتطرفة والإعلان عنه بعد يوم واحد من توصل السعودية وإيران لاتفاق إعادة العلاقات بينهما، يؤكد تخوف تلك الجماعة من تضييق الجمهورية الإيرانية الداعمة لهم الخناق على أبواقها الإعلامية، ومنعها من مهاجمة دول التحالف العربي، وعليه فإن الحوثي أراد من خلال هذا التطبيق إيصال رسالة مفادها أن الجماعة ماضية في مخططاتها وأهدافها لنشر أفكارها وإثبات أنها الجهة الشرعية والأحق بحكم الدولة اليمنية منفردة، ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة إطلاق تلك الجماعة التي تقمع في الوقت الحالي “اليوتيوبرز اليمنيين” (صانعي المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي) مزيداً من هذه التطبيقات التي ستسهم في “عزلة اليمن” ووضع العراقيل أمام الشعب اليمني لمنعه من التواصل مع العالم الخارجي وكشف جرائم تلك المليشيا المتمردة.