أبرمت العراق وإيران اتفاقاً أمنياً خلال الزيارة التي قام بها أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني إلى بغداد، بدعوة من مستشار الأمن الوطني العراقي قاسم الأعرقجي، في 19 مارس الجاري. ويتضمن الاتفاق التنسيق بين الدولتين في “حماية الحدود المشتركة، وتوطيد التعاون المشترك في مجالات أمنية عدة”. وفي الواقع، يمكن القول إن هذا الاتفاق لا يمكن فصله عن مجمل التطورات التي طرأت على الساحتين الداخلية في إيران والعراق خلال الفترة الماضية، فضلاً عن بعض التطورات الإقليمية التي تحظى باهتمام مشترك من جانب طهران وبغداد.
أهداف متعددة
يمكن القول إن طهران وبغداد تسعيان عبر التوقيع على هذا الاتفاق إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- ممارسة ضغوط أقوى على جماعات المعارضة الإيرانية: وجّهت إيران اتهامات عديدة إلى بعض جماعات المعارضة الكردية المسلحة الموجودة في شمال العراق بمحاولة تأجيج الاحتجاجات الداخلية التي انطلقت من المناطق الكردية منذ منتصف سبتمبر الماضي، والمساعدة في تعرض إيران لاختراقات أمنية من جانب أجهزة استخبارات أجنبية استهدفت منشآت نووية وعسكرية متعددة. وعلى ضوء ذلك، شنت إيران أكثر من هجوم على مواقع تلك الجماعات في شمال العراق، لا سيما الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحركة “كومله”، على غرار الهجوم الذي نفذه الحرس الثوري في 14 نوفمبر الماضي، في قضاء كويسنجق التابع لأربيل بإقليم كردستان.
لكن يبدو أن إيران لم تكتفِ بذلك، إذ تسعى، في الغالب، إلى إخراج هذه الجماعات من العراق، على غرار ما حدث مع بعض جماعات المعارضة الأخرى، مثل منظمة مجاهدي خلق، التي كان بعض عناصرها يقيمون في “معسكر أشرف”، وبدؤوا يتعرضون لضغوط من جانب الحكومة العراقية في مرحلة ما بعد عام 2012 للانتقال إلى معسكر ليبرتي ثم الخروج من العراق.
2- وقف عمليات تصفية الحسابات على الأراضي العراقية: تسعى الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني عبر هذا الاتفاق إلى وقف عمليات تصفية الحسابات الإقليمية والدولية التي تجري على الأراضي العراقية، لا سيما بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. وقد بدا ذلك جلياً في تصريحات السوداني عقب التوقيع على الاتفاق، حيث أبدى رفضه القاطع لأن “تكون أرض العراق مسرحاً لتواجد الجماعات المسلحة، أو أن تكون منطلقاً لاستهدافها، أو أيّ مساس بالسيادة العراقية”. وتكتسب هذه القضية تحديداً اهتماماً خاصاً من جانب رئيس الحكومة العراقية، باعتبار أن التصعيد الذي جرى على الساحة العراقية خلال المرحلة الماضية كانت له تأثيرات سلبية على حالة الأمن والاستقرار التي تعمل الحكومة على تعزيزها، وتواجه عقبات في هذا الصدد، خاصة في مرحلة ما بعد التصعيد العسكري المحدود الذي جرى بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بداية من 3 يناير 2020 عندما قامت الأخيرة بشن ضربة عسكرية أدت إلى مقتل القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني ونائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، وهى الضربة التي ردت عليها إيران باستهداف قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية بعد خمسة أيام، لكنها ما زالت مصرة على “الانتقام” لسليماني، بما يعني أنها لم تكتف بتلك الهجمات.
3- محاولة تقييد أدوار المليشيات المسلحة: ربما يسعى رئيس الحكومة السوداني إلى استثمار هذا الاتفاق من أجل تعزيز قدرة حكومته على تنفيذ ما تعهد به من نزع سلاح المليشيات، وتكريس احتكار الدولة له. وقد كان لافتاً أنه في اليوم نفسه الذي وقع فيه الاتفاق، صرح السوداني بأن بلاده “ستصل قريباً لمرحلة نزع السلاح من كل القوى، ولن يكون هناك سلاح خارج سيطرة الدولة”، وهو ما لا ينفصل عما سبق أن تعهد به خلال تقديم برنامجه الحكومي إلى مجلس النواب، حيث أكد أولوية “السيطرة على السلاح الذي يتحرك خارج إطار الدولة”.
ومع ذلك، فإن هذه المهمة لن تكون سهلة، إذ إن ثمة عقبات عديدة يمكن أن تواجهه، أهمها الضغوط التي يمكن أن تمارسها قوى الإطار التنسيقي في المرحلة القادمة، والتي ترى أن سلاح المليشيات يمثل إحدى الآليات المهمة التي تستند إليها في تكريس نفوذها على الساحة الداخلية العراقية.
4- توجيه رسائل تحدي إلى واشنطن: كان لافتاً أن التوقيع على الاتفاق الأمني جاء بعد أقل من أسبوعين على الزيارة “غير المعلنة” التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى العراق، في 7 مارس الجاري، والتي هدفت من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية إلى تأكيد استمرار الشراكة الاستراتيجية مع العراق، وتأكيد التزامها بالحفاظ على وجودها العسكري الذي ترى أنه يمثل آلية مهمة لمحاربة تنظيم “داعش”.
وقد كان لافتاً أن هذه الزيارة أثارت ردود فعل متشددة من جانب إيران والمليشيات الموالية لها في العراق، خاصة أنها جاءت قبل أيام من حلول الذكرى العشرين للاحتلال الأمريكي للعراق، حيث اعتبرت هذه الأطراف أن واشنطن تسعى من خلال ذلك إلى مواصلة تعزيز وجودها العسكري داخل العراق تحت عنوان تقديم الدعم الاستشاري للقوات العراقية في محاربة تنظيم “داعش”.
من هنا، يبدو أن التوقيع على الاتفاق الأمني في اليوم نفسه الذي حلت فيه الذكرى العشرون للاحتلال الأمريكي للعراق، كان خطوة متعمدة من جانب إيران أولاً لتأكيد استمرار حضورها داخل العراق، من خلال المليشيات الموالية لها، وثانياً للرد على التعهد الأمريكي بالحفاظ على الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق.
تحديات محتملة
مع ذلك، لا يبدو أن هذا الاتفاق سوف يمنع تجدد التصعيد على الأراضي العراقية، خاصة أن إيران دائماً ما تتبنى في هذا السياق سياسة “الحرب بالوكالة” التي تعتمد على إدارة تصعيدها مع خصومها عبر المليشيات الموالية لها، وهي السياسة التي ترى أنها لا تفرض ضغوطاً قوية عليها أو تعرضها لاتهامات مباشرة بالتدخل، باعتبار أنها لا تعلن في الغالب مسئوليتها عن هذه الهجمات. ومن دون شك، فإن ما يزيد من احتمال تحقق هذا السيناريو هو استمرار الخلاف حول الملف النووي، بين إيران من جهة، وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة أخرى. فرغم المؤشرات الإيجابية التي برزت في الفترة الأخيرة، خاصة بعد الزيارة التي قام بها المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل غروسي إلى طهران يومي 3 و4 مارس الجاري، فإن ذلك لا ينفي أن الخلافات القائمة لا تبدو ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة، على نحو يُبقي على كل المسارات مطروحة للتعامل مع هذه الأزمة خلال المرحلة القادمة.