في غضون الأسابيع الثلاثة المقبلة ستجري عملية تبادل الأسرى اليمنيين، وفقاً لما تم الاتفاق عليه في جولة جنيف التي تم الإعلان عنها في 21 مارس الجاري، لتكون أول صفقة ناجحة بين الحكومة اليمنية والحوثيين. ومن شأن إتمام الصفقة – التي يقول أطرافها إنها تمت وسط أجواء من التفاؤل – إعادة إحياء مسار عملية التسوية السياسية الشاملة، لا سيما وأن مفاوضات جنيف التي شهدت الاتفاق حول الصفقة جرت بالتزامن مع الإعلان عن اتفاق سعودي – إيراني لاستئناف العلاقات الدبلوماسية برعاية صينية، وهو الاتفاق الذي يعول عليه في حلحلة ملفات التوتر الإقليمي بين الطرفين، وفي المقدمة منها بطبيعة الحال الأزمة اليمنية.
دروس مستفادة
بشكل عام، عكست جولة التفاوض السابعة في جنيف دلالة التقارب بين الرياض وطهران، حيث فشلت ست جولات سابقة في العاصمة الأردنية عمّان في التوصل إلى النتائج نفسها، وكان ينظر إلى الجولة باعتبارها الاختبار الأول لهذا التقارب. إذ من المفترض أن يتم تقييمه بشكل أوّلي في غضون شهرين ما بعد توقيع الاتفاق حتى يتمّ تبادل البعثات الدبلوماسية المجمدة بين الطرفين منذ عام 2016. ومع ذلك، من الأهمية بمكان النظر إلى عدة نقاط في هذا السياق، منها على سبيل المثال:
1- الارتهان لمدى العلاقة بين الطرفين: أي أن تقدم أو تراجع عملية التفاوض يبقى رهن تقدم أو تراجع العلاقة بين السعودية وإيران بالتبعية كون الاتفاق هو الذي شكل انفراجة في هذا الملف اليمني، وسيترتب عليه ما هو قادم من الملفات الأخرى على مسار التسوية، بل وستتشكل خريطة الطريق السياسية المقبلة في ضوء التفاهمات التي ستتم بين الطرفين، حتى وإن كان ذلك سيتم برعاية الأمم المتحدة التي ستلعب دور الوسيط بين الطرفين.
2- الحاجة إلى ضوء أخضر إيراني مسبق: لم تكن الحكومة المعترف بها هي الطرف المسئول عن فشل الجولات السابقة، بل على العكس كانت تبدي مرونة في كل جولة، وبالتالي فإن تغير موقف الحوثيين جاء بناءً على دفع طهران المليشيا الحوثية إلى تحريك المفاوضات لإبداء نوع من التجاوب مع اتفاق بكين، ومن ثم كان المحدد الرئيسي هو موقف إيران التي أعطت الضوء الأخضر للمليشيا لتغيير موقفها. ولذا، فإن أي تحرك يتعلق بعملية التسوية المقبلة سيتطلب الضوء الأخضر الإيراني أولاً.
3- السلطة الموازية في مركزية اتخاذ القرار: جاءت الموافقة النهائية على إتمام الصفقة بعد أسبوع تقريباً من بدء جولة التفاوض في جنيف (استغرقت الجولة 10 أيام) بمجرد اتصال أجراه زعيم المليشيا عبد الملك الحوثي مع وفد المليشيا المفاوض حدد فيه من يمكن إطلاق سراحهم، ومن بينهم شقيق الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي، وشقيق ونجل العميد طارق صالح، ووزير الدفاع الأسبق محمود الصبيحي، وهو مؤشر على أن القرار المركزي للمليشيا يهيمن عليه زعيمها عبد الملك الحوثي الذي يحتكر القرار، على نحو يؤكد طبيعة آلية اتخاذ القرار، بل ودور الحوثي كسلطة موازية، وهو ما سيشكل تحدياً واضحاً لهوية الدولة الوطنية، والتحدي الذي سيواجه التركيبة السياسية لأي سلطة في مستقبل عملية التسوية السياسية أو ما بعدها.
4- إجراء مفاوضات طويلة ومعقّدة: على نحو ما سلفت الإشارة، استغرق ملف الأسرى 10 أيام من المفاوضات المضنية، على الرغم من أن هذا الملف سبقه عديد من الجولات من المباحثات وتبادل القوائم، وكذلك كان المبدأ الرئيسي الذي يفترض العمل عليه هو مبدأ التبادل (الكل مقابل الكل)، إلا أن ذلك لم يتم، وتعتبر هذه الصفقة بمثابة صفقة أولى يتعين أن يتبعها المزيد من الصفقات التالية، وهو ما يطرح التساؤل بشأن الصفقات التالية، أو الخطوات التالية لمسار عملية التسوية: فهل سيتم التعامل معها بالتجزئة أيضاً، ولا سيما الملفات الأكثر تعقيداً، وهي ملفات عديدة، كملفات شكل السلطة والهوية، ومصير سلاح المليشيا الحوثية وعناصرها العسكرية؟. وبحسب تقارير إيرانية، فإن طهران ستُعين مبعوثاً خاصاً للأزمة اليمنية، مما يدعم فرضية طول أمد مسار التسوية حال إطلاقه.
5- إشكالية مرجعيات التفاوض في عملية التسوية: كان ملف تبادل الأسرى أحد ثلاثة أركان في مخرجات اتفاق استكهولم 2018. ومع ذلك، لم تتم الإشارة إلى الاتفاق كمرجعية، وكذلك تركز كافة قيادات الحكومة الشرعية على قاعدة المرجعيات المعروفة (المبادرة الخليجية، والقرار الأممي 2216، ومخرجات الحوار الوطني 2013)، حيث تخشى الحكومة من تجاوز هذه القاعدة والارتكان فقط إلى تفاهمات جديدة. وفي مقابل ذلك، تتذرع المليشيا الحوثية بأن تلك المرجعيات إما تبدلت أو تغيرت أو لم تعد ملائمة. وفي واقع الأمر، فإنه قد يتعين إعادة تنقيح تلك المرجعيات في ضوء المتغيرات التي طالت هذا الملف بفعل طول المدى الزمني للأزمة.
6- الغياب الأمريكي عن الصفقة: ظهر في جنيف خلال المباحثات الخاصة بملف الأسرى المبعوث الأممي هانز غروندبيرج، وفي خلفية المشهد كان الدفع الإيراني – السعودي واضحاً أيضاً. ومع ذلك، لم تظهر الولايات المتحدة في هذا المشهد رغم ترحيب واشنطن بالتطورات الأخيرة، إذ لم يظهر المبعوث الأمريكي تيموثي ليندركينج، مع أنه كان لاعباً في كل خطوات المشهد اليمني من قبل، وهو متغير مرتبط بظهور دور الصين الذي يبدو أنه سيقطع الطريق على الدور الأمريكي. ومع ذلك، تراهن واشنطن – بحسب تصريحات مايكل كوريلا قائد القيادة الوسطى الأمريكية – على أن الوضع لن يدوم كثيراً حينما يدخل المسار منعطف الملفات الصعبة التي يتعين فيها على إيران أن تقدم تنازلات حقيقية.
المشهد التالي
السؤال المطروح حالياً فيما يتعلق بمشهد الأزمة اليمنية هو: ما الخطوة التالية لإنجاز الصفقة الجزئية لملف الأسرى؟ بحسب طبيعة الترتيبات التي تلت اتفاق بكين فيما يخص ملف الأزمة اليمنية، سيكون هناك مؤتمر جديد للتسوية برعاية صينية. قد تكون نقطة البدء الأساسية هي الوصول لقرار وقف لإطلاق النار بين الأطراف المتحاربة كنقطة لتهيئة المشهد لبناء عملية سلام في ضوء وضع خريطة طريق جديدة، وهو ما يثير نقطتين رئيسيتين هما:
1- إعادة الاعتبار لمسار الهدنة: وهو العنوان الأكثر بروزاً في المرحلة الحالية. وتشير القوى المنخرطة حالياً في الملف، إلى جانب الأمم المتحدة، إلى أن مسار الهدنة مستمر منذ 11 شهراً على الرغم من أن هذا المسار مجمد عملياً منذ أكتوبر الماضي. ومع ذلك، لم تقم المليشيا الحوثية بعمليات هجومية ضد السعودية، رغم استمرار التصعيد على الجبهة الداخلية، وهي التي ستكون المحك في اختبار وقف إطلاق النار، إذ إن المليشيا أوقفت التصعيد ضد الرياض كمقابل لاستمرار استحقاقات الهدنة رغم توقفها، وبالتالي: ما هي الاستحقاقات الجديدة التي ستحصل عليها المليشيا لوقف إطلاق النار؟، وهل ستكتفي فقط بالحصول على الرواتب ورفع المزيد من القيود على حركة الموانئ والأجواء؟
في كل الأحوال، سترسم استحقاقات العودة إلى الهدنة المسار التالي. ومع ذلك، من الأهمية بمكان التعامل مع الهدنة على أنها مجرد بداية لاتفاق وقف إطلاق النار، وليس التسوية السياسية التي تتطلب استحقاقات من نوع آخر، مع الأخذ في الاعتبار ضمانات مهمة من حيث آلية المراقبة والعقوبات التي يمكن فرضها في حال مخالفة مقررات وقف إطلاق النار. فعلى سبيل المثال، بمحرد الإعلان عن صفقة تبادل الأسرى، أصدرت محكمة موالية للحوثيين أحكاماً بالسجن على نشطاء سياسيين، كما أن هناك عدداً من التقارير المحلية التي تشير إلى عمليات اختطاف قامت بها المليشيا ضد مدنيين، وهو ما يشكل استدارة على الهدف من ملف الأسرى، خاصة وأن عدداً كبيراً منهم من المدنيين.
2- التفاهم على ملامح خريطة طريق التسوية: بالتوازي مع اتخاذ خطوات جديدة في مسار التقارب السعودي – الإيراني، من الأهمية بمكان البحث في النقاط التي تطلبها عملية تحديد ملامح خريطة الطريق، بالإضافة إلى بحث السيناريو التالي مع الحكومة الشرعية، ولا سيما في ضوء المخاوف التي تبديها الأخيرة تجاه المقررات والمبادئ التي يمكن هندسة خريطة طريق في ضوئها.
كذلك، يؤخذ في الاعتبار أيضاً أن سنوات الصراع السابقة منذ الانقلاب الحوثي على الشرعية (سبتمبر 2014) شكلت معها موازين قوى جديدة، سياسية وعسكرية، بالنسبة لكل الأطراف. صحيح أن مبادرة مجلس التعاون في إبريل 2022 أعادت تشكيل السلطة الشرعية تحت مظلة مجلس القيادة الرئاسي، ولكن ذلك لا يلغي مدى التباين في مشروعات أو منظور تلك الأطراف لمستقبل العملية السياسية.
وفي السياق ذاته، لا يزال من غير الواضح ما هو شكل الدولة، وتقاسم السلطة مع دخول الحوثي في المعادلة، هل تتجه إلى الشكل الفيدرالي في إطار مشروع الأقاليم الذي كان ضمن الحوار الوطني، أم تعود إلى الشكل السابق؟. ومع ذلك، في كل الأحوال ستُبقي المليشيا ومن خلفها إيران على المشروع الطائفي الحوثي، كون هذا المشروع أصبحت له مظاهر واضحة، بل إن المليشيا تتوسع في مظاهره من معقلها الديني في صعدة إلى صنعاء حالياً، وأحد هذه المظاهر مشروع إقامة مشهد ديني في صنعاء القديمة.
مسار صعب في الأخير، يمكن القول إن صفقة الأسرى لا تزال مجرد خطوة تكتيكية على مسار طويل للتعاطي مع حل الأزمة اليمنية المعقدة والمتشابكة، وقد يكون انعكاس الحل الإقليمي مهماً في هذا السياق في إطار التقارب السعودي – الإيراني. ومع ذلك، لم تختبر أيضاً طبيعة العلاقة بين القوى الكبرى في هذا الصدد؛ إذ إن انخراط الصين في ملف تسوية الأزمة اليمنية وموقف الولايات المتحدة من ذلك ستكون له تداعياته المستقبلية، ولا يمكن بسهولة فك الاشتباك في كل الأحوال بين محاور الأزمة وتفاعلاتها وتداعياتها الدولية والإقليمية، وما يرتبط بها من ملفات أخرى، إضافة إلى التفاعلات على المستوى المحلي ما بين القوى اليمنية المختلفة، وقد يكون مشهد التفاوض دلالة هامة في هذه المعادلة تشير إلى أن المسار القادم لن يكون سهلاً حتى وإن كانت صفقة تبادل الأسرى تشكل نقطة ضوء في نهاية نفق طويل.