أدخل الاتفاق الإيراني – السعودي الصين إلى ساحة الصراع الإقليمي من بابها الواسع، بعد سنوات مارست فيها بكين سياسة عدم التورط في مشاكل الشرق الأوسط الشائكة والاكتفاء بالتركيز على تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، والابتعاد من الشؤون الداخلية للدول. فقد كانت الصين حذرة في كل خطواتها سابقاً في ما يخص الخلاف بين دول الخليج العربية وإيران، وتدرس موازنة قراراتها بشكل لا يُشعر أياً من أطراف الخلاف بأنها مع فريق ضد الآخر. فهي تملك مصالح اقتصادية استراتيجية مع هذه الدول، وبالتالي كانت تتجنب أي خطوة قد تضعها في موقف حرج.
لكن بكين اليوم وبعد التغييرات في هيكلية السلطة والتي جعلت شي جينبينغ رئيساً مدى الحياة، يبدو أنها أكثر اندفاعاً للعب دور أكبر على الساحة الدولية، بدأ من الخليج العربي الذي تصدّر دوله لها جزءاً كبيراً من حاجاتها من النفط والغاز. فالاتفاق الإيراني – السعودي يساهم في تأمين مصادر الطاقة الحيوية للصين واقتصادها. لكن، هل تستطيع أن تكون الضامن له؟ وهل هو فعلاً على حساب النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط؟
لا توجد تفاصيل كثيرة حتى الآن حول هذا الاتفاق، ومن الأمور غير الواضحة هي الى أي مدى تعهدت الصين بأن تكون الضامن والحكم للتأكد من تنفيذ الطرفين لتعهداتهما فيه؟ عادة ما تلجأ الدول التي يدور بينها نزاع طويل وحاد الى طرف ثالث ليتوسط في ما بينها ويساعدها على التوصل الى اتفاق. ومن المتعارف عليه أن طرفي النزاع يختاران أن تكون هناك جهة دولية نافذة تشرف على تطبيق بنود الاتفاق بشكل عادل. فكل من الطرفين لا يملك الثقة بالآخر وبالتالي يتوقع أن يحاول أحدهما الامتناع عن تنفيذ بعض البنود والمراوغة لتأمين مكاسب اضافية. دور الوسيط الضامن هو أن يتأكد من احترام كلا الطرفين تعهداتهما، وعليه ممارسة مهمته بطريقة عادلة من دون الضغط على طرف من دون الآخر. ويفضل أطراف النزاع أن تلعب دولة عظمى لديها نفوذ كبير دور الوسيط الضامن لما لديها من ثقل وتأثير تمنع الجهة الأخرى من التلاعب.
لكن دول الشرق الأوسط لم يسبق لها أن امتحنت الصين في هكذا دور، بخاصة بين قوتين إقليميتين لهما مكانتهما على الساحة الدولية. ولطالما استأثر بهذا الدور الولايات المتحدة ولاعبون آخرون مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا. وعند انطلاق عملية السلام بين العرب وإسرائيل عام 1991 كانت واشنطن وموسكو القوتين الضامنتين للاتفاقات التي وقعت. الا أن الولايات المتحدة استأثرت بهذا الدور وهمشت دور روسيا إضافة للاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وباتت هي الطرف الوحيد الراعي لعملية السلام التي شهدت انتكاسات متعددة، ولا تزال، نتيجة مواقفها المؤيدة للمطالب والسياسات الإسرائيلية على حساب الفلسطينيين تحديداً. هذا الواقع أفقد أميركا دورها كوسيط عادل في المسار الإسرائيلي – الفلسطيني ما أضعف عملية السلام وساهم بعودة العمل المسلح في الأراضي الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة وشمال إسرائيل.
عدد من الباحثين والمسؤولين في الغرب يتوقعون أن يفشل هذا الاتفاق لأن إيران لها تاريخ طويل من عدم الالتزام بتعهداتها في اتفاقات سابقة. ولا يعتقد هؤلاء أن الصين ستكون جادة بلعب دور الراعي لهذا الاتفاق لأنها لا تريد إغضاب أي طرف ما قد يؤثر في علاقاتها معها. لكن يصعب تأكيد هذا مع عدم وجود تجربة سابقة تظهر جدية بكين في دور الوسيط والضامن لاتفاق يتوقع كل من الطرفين المعنيين به أن تؤدي لتحقيق معظم مطالبه، إن لم يكن كلها.
الشهران المقبلان سيكونان فترة بناء الثقة والخطوات الأولية التي ستشكل امتحاناً للأطراف المعنية وجديتها، فإن استنتج أي منهما أن الطرف الآخر التزم بما تعهد، سيقدم على خطوات أكثر تقدماً. أما إن شعر أي منهما بأن الطرف الآخر يراوغ وأن بكين لا تضغط بشكل كافٍ، فستكون نهاية هذا الاتفاق، ما سيؤثر سلباً في صورة الصين كوسيط سلام في المنطقة.
أما نجاح الاتفاق، فسيشكل ضربة قوية لمكانة أميركا السياسية في المنطقة. ففي وقت يستمر الفشل الأميركي في أداء دور الراعي العادل لعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين بعد أكثر من ثلاثين عاماً على مؤتمر مدريد، ستظهر الصين كطرف ذي صدقية وقدرة على حل النزاعات في المنطقة. وقد تتوسع حينها الوساطة الصينية لتضم دولاً عربية أخرى على خلاف مع إيران، ما سينهي عزلة إيران إقليمياً، وهذا بدوره سيضرب المساعي الإسرائيلية لإنشاء تحالف إقليمي ضد طهران. وتمر إسرائيل اليوم في فترة اضطرابات داخلية غير مسبوقة نتيجة سياسات حكومة اليمين المتطرف والتي ستنهي نظامها الليبرالي الديموقراطي، الأمر الذي سيضع علامات استفهام كبيرة على علاقاتها المستقبلية مع أميركا والاتحاد الأوروبي. واذا ما نفذت الحكومة الإسرائيلية أجندتها بضم الضفة الغربية، فهذا سيؤدي الى تدهور علاقاتها بشكل كبير مع الدول العربية التي وقعت معاهدات سلام معها.
حتى الآن، لا تزال الولايات المتحدة القوة الأساسية المهيمنة والراعية لأمن منطقة الخليج العربي، وقد رحب وزير خارجيتها بالاتفاق الايراني – السعودي. لا يمكن لأي طرف دولي أن يرفض أو ينتقد معاهدة تنهي نزاعاً بين دولتين ويتوقع أن ينهي حرباً (في اليمن) ويساهم بتعزيز الاستقرار في دول أخرى (العراق وسوريا ولبنان). وستراقب واشنطن الخطوات اللاحقة للصين ومدى التزام إيران بتطبيقها. ويمكن الاستنتاج أن هذا الاتفاق كان ضربة قوية أثرت في مكانة أميركا في المنطقة، لكن فقط اذا ما التزمت طهران بتطبيقها بإشراف وثيق صيني. أما اذا ما راوغت إيران ولم تستطع الصين منعها من مخالفة بنود الاتفاق، فهذا سيكون لصالح موقع أميركا كقوة مهيمنة في المنطقة.
وفي كل الأحول، فإن هذا الاتفاق أظهر تراجع دور روسيا في المنطقة وحلول الصين مكانها كقوة فاعلة ثانية بعد أميركا. وقد تشهد المنطقة المزيد من المبادرات الصينية لحل النزاعات بهدف تأمين مصالحها وزيادة نفوذها السياسي الذي سيكون بشكل أساسي على حساب مكانة موسكو، وبشكل متدرج على حساب واشنطن، ما سيفتح الطريق لبكين للعب دور أمني مستقبلاً في الشرق الأوسط.
نقلا عن النهار العربي