مداخل ثقافية لتحقيق العروبة – الحائط العربي
مداخل ثقافية لتحقيق العروبة

مداخل ثقافية لتحقيق العروبة



عقَدَ مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت حلقة نقاشية تحت عنوان المنطلقات الأفقية للوحدة العربية، شارك فيها بالحضور وعبر تقنية الزووم مفكّرون من عدة بلدان عربية منها لبنان وفلسطين والمغرب والجزائر ومصر والأردن. وجاء انعقاد هذه الحلقة على خلفية بعض التفاعلات الشعبية العربية التلقائية عبر الحدود الجغرافية، من أول الالتفاف العربى حول الفريق المغربى فى كأس العالم لكرة القدم فى الدوحة، وحتى الفرحة العراقية والخليجية والعربية بتأكيد اللحمة بين الشعب العراقى والشعوب الشقيقة فى الخليج. وبطبيعة الحال يمكن تفهّم تحذير البعض من عدم الإفراط فى التفاؤل بتلك التفاعلات على أساس أنها قاصرة على المستديرة الساحرة وكأننا نزلنا من حلم العروبة السياسية فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى إلى العروبة الرياضية فى الألفية الثالثة. وإذا كان بالفعل من غير الموضوعية الإفراط فى التفاؤل، إلا أنه سيكون من غير الموضوعى أيضًا الاستمرار فى تجاهل دلالات ماحدث، هذا أولًا. وثانيًا من قال إن السياسة كانت بعيدة عن هذه العروبة الرياضية؟ إن الحضور القوى للقضية الفلسطينية فى الدوحة وعلى مرأى ومسمع من العالم كله ذروة السياسة، كما أن تصدّى العراق بقوة للمماحكات الإيرانية احتجاجًا على عروبة كأس الخليج كان قمة فى السياسة. وبالتالى فلنتفق على أن قضية الوحدة العربية بالمعنى السياسى لم تعد مطلبًا جماهيريًا عربيًا وتقدّمت عليها فكرة المحافظة على الكيانات الوطنية فى مواجهة مخاطر التفكيك والدعاوى الانفصالية خصوصًا منذ ٢٠١١. نحن إذن متفقون على ذلك، لكن فى الوقت نفسه دعونا نتفق على أن هناك مشتركات بين الشعوب العربية يمكن البناء عليها، وهذه المشتركات لا تحتاج لأكثر من عامل مساعد أو عنصر مفجّر حتى تعبّر عن نفسها كما حدث فى كلٍ من الدوحة والبصرة.

أعد الورقة الخلفية للحلقة النقاشية مدير الدراسات بالمركز الأستاذ فارس أبو صعب، وأدارت النقاش الأستاذة لونا أبو سويرح مديرة المركز. أما التساؤلات الأساسية التى تطلع المركز للإجابة عليها فإنها دارت حول كيفية التأسيس لمشروع الوحدة العربية الشعبية، وما إذا كانت الظروف السائدة تساعد على التشبيك العربى وفى أى قطاعات يمكن حدوث هذا التشبيك، وأخيرًا بواسطة أى النخب القائمة يمكن أن يحدث التشبيك المطلوب. وقبل الانتقال لاستعراض أبرز اتجاهات النقاش، تجدر الإشارة إلى تحفّظ المشاركين على استخدام مصطلح المنطلقات الأفقية فى عنوان الحلقة النقاشية، لأنه إذا كان المقصود بكلمة الأفقية أن تكون المبادرات شعبية لا رسمية فإن الكلمة لا تعطى المعنى المطلوب لأن المنطلقات الرسمية قد تكون أفقية أيضًا، ولذلك فضّل المشاركون استخدام مصطلح الأسس القاعدية. كذلك يُلاَحَظ أن مداخلات المشاركين كانت تتحدث- على الأقل فى حدود المدى المنظور-عن العروبة الثقافية وليس عن مشروع سياسى للوحدة العربية بالنظر إلى الظروف العربية الراهنة، وفى هذا السياق تمحوَرَت هذه المداخلات حول نقطتين أساسيتين، النقطة الأولى هى كيفية تفعيل العروبة الثقافية، والنقطة الثانية هى كيفية جعل هذه العروبة الثقافية متعايشة مع الهويات الثقافية الفرعية لجماعات الأكراد والأمازيغ والأرمن.. إلخ. فيما يخصّ النقطة الأولى، ذهب المشاركون إلى ضرورة العناية بتقوية اللغة العربية لدى الأجيال الشابة التى لاهى تفكّر باللغة العربية ولا هى تحبّذ الكلام بها، بينما أنه من دون الاهتمام باللغة العربية يغيب الأساس الموضوعى لتفعيل العمل العربى المشترك مستقبّلًا. وقيل فى هذا السياق كلام عن أهمية تطوير مناهج اللغة العربية بما يجعلها أكثر قدرة على اجتذاب الطلاب.على صعيد آخر تمت الإشارة إلى ضرورة تشجيع المنصّات الحوارية بين الشباب العربى على وسائل التواصل الاجتماعى بهدف خلق اهتمامات عربية مشتركة، فمع مراعاة أن تلك المنصّات قد تكون سلاحًا بحدّين وأنها قد تتسبب فى إثارة النعرات القُطرية عند مناقشة قضايا عربية خلافية، إلا أن ترسيخ تقليد الحوار يمكن أن يؤدى بمرور الوقت لتقبَل الاختلاف. جدير بالذكر أن مخيّم الشباب العربى الذى ينظمه المؤتمر القومى العربى سنويًا فى إحدى المدن العربية ويجمع شبابًا من كل الجنسيات العربية يقوم بدور مهم فى هذا الاتجاه، لكنه لا يقاس بقدرة وسائل التواصل الاجتماعى على الانتشار والتأثير.

أما النقطة الثانية فهى التى تتعلّق بانفتاح الهوية العربية على الهويات الفرعية، وهى نقطة بالغة الأهمية، فعلى الرغم من أن الفكر القومى العربى صحّح خطأه التاريخى المتمثّل فى النظر للهويات الفرعية باعتبارها تهدّد الهوية العربية، إلا أن العالم كله يشهد صحوة فى الانتماءات الأوليّة للجماعات الدينية والمذهبية واللغوية، وهذا يستدعى حساسية أكبر فى التعامل مع الموضوع. وطالما نحن نتكلم عن مبادرات شعبية من جانب المجتمع المدنى المنظّم وغير المنظّم فإن هذا يتطّلب أن تكون المؤسسات غير الرسمية والتفاعلات الجماهيرية عابرة للولاءات الضيقة. وبشكل عام يمكن القول إن هذا النقاش المفيد الذى ركّز على الدور الشعبى، وعلى العروبة الثقافية، تميّز أكثر ما تميّز بالواقعية، وهذا اتضح فى الإشارة إلى التدرّج والمرحلية فى تنمية الوعى بالعروبة الثقافية. وهو تدرّج ينبع من الوعى بالحدود التى تتحرك فيها الأطر الشعبية العربية على نحو لا يقاس بما كان عليه الحال فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى. لكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة.

نقلا عن الأهرام