تتبلور مرحلة جديدة في تسوية الأزمات الإقليمية في ليبيا وسوريا واليمن. فبعد مرحلة خفض التصعيد التي تشهدها ملفات هذه الأزمات، يبدو أنها على أعتاب مرحلة تسوية، ففي اليمن وعلى الرغم من تعثر استئناف الهدنة بين الحكومة الشرعية والحوثيين، إلا أن المباحثات الجارية بوساطة عمانية قد تقود إلى احتمال استئناف الهدنة، وثمة تقارير تشير إلى انعقاد لقاء مرتقب في جنيف بين الأطراف اليمنية لتسوية ملفات الأسرى والمختطفين في 10 مارس الجاري.
وفي ليبيا، حرّكت مبادرة المبعوث الأممي عبد الله باتيلي التي طرحها خلال إفادته الأخيرة بمجلس الأمن (27 فبراير 2023) المياه الراكدة في المشهد السياسي الليبي، حيث دفعت مجلسي النواب والدولة إلى التوافق على اعتماد التعديل الدستوري الثالث عشر كمرجعية للعملية الانتخابية.
أما في سوريا، فقد تسبب الزلزال الذي تعرضت له البلاد، في 6 فبراير الفائت، في انفراجة سياسية نسبية للنظام، سبقها حديث عن تقارب مع تركيا قد يعيد تشكيل المعادلة السياسية، بحكم علاقة أنقرة بالمعارضة السورية.
وبالتالي، فإن القاسم المشترك بين الحالات الثلاث هو دفع اتجاه التسويات السياسية لاستيعاب كافة أطراف الصراع، بعد أن وصلت تلك الأطراف إلى مرحلة من الإنهاك في الصراع المسلح، وتحولت خريطة الصراع إلى تقاسم نفوذ وتوازن عسكري ما بين الأطراف المتصارعة، إلى درجة لم يعد في مقدرة أي طرف زيادة حجم النفوذ والتمدد.
فعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، لم تتمكن المليشيا الحوثية في اليمن من اختراق جبهة مأرب التي يهيمن عليها الجيش الوطني، رغم أن المليشيا تعتبرها جبهة استراتيجية نظراً لكونها مصدراً لموارد الثروة (النفط والغاز). وفي المقابل، لم يتمكن الجيش الوطني من استعادة العاصمة ومناطق النفوذ التي تهيمن عليها المليشيا.
كذلك لا يزال النظام السوري والأكراد والمعارضة يحافظون على نفس مساحات السيطرة والنفوذ من ثلاث سنوات، وهي عمر اتفاق خفض التصعيد (سوتشي- سبتمبر 2018). وفي ليبيا، يحافظ الأطراف على اتفاق وقف إطلاق النار الذي يفصل بين قوات شرق البلاد وغربها من حيث تقاسم نفوذ قوات الجيش الوطني في الشرق، مقابل قوات رئاسة أركان والفصائل المسلحة في الغرب.
دوافع عديدة
من المتصور أن هناك عدداً من الدوافع التي تساهم في هذا التحول الحالي من مشهد خفض التصعيد إلى عتبة التسويات، وهو ما قد يشكل فرصاً لدفع مسار التسوية، ومنها على سبيل المثال:
1- أولويات القوى الخارجية المنخرطة في الأزمات: مارست الحرب الروسية-الأوكرانية دوراً في تغير أولويات القوى الدولية المنخرطة في الصراعات لحسم التنافس ما بين تلك القوى خارج الساحة الأوكرانية. فالولايات المتحدة زادت من حجم انخراطها السياسي في الأزمات الإقليمية في محاولة لتقويض التغلغل الروسي فيها، كمقاومتها لوجود مجموعة “فاجنر” في ليبيا، على سبيل المثال.
في المقابل، دخلت روسيا على خط الأزمة اليمنية بوتيرة أكبر مما كانت عليه في السابق، ومن المحتمل أن يشكل ذلك محفزاً للولايات المتحدة لدفع مسار التسوية، بالتوازي مع زيادة الجهود الأمريكية والغربية عموماً للحد من حركة تهريب الأسلحة الإيرانية إلى اليمن، مما قد يساهم في دفع المليشيا الحوثية إلى طاولة التفاوض. ومع ذلك، تؤكد روسيا أنها تدعم مسار التسوية وليس تأجيج الصراع كأولوية في المرحلة الحالية.
2- تحول تقاسم النفوذ إلى تقاسم السلطة: يتنامى الحديث عن إجراءات تتعلق بالمصالحة الوطنية في ليبيا، وفتح قنوات الاتصال ما بين القيادة العامة والفصائل المسلحة كأحد تطورات مسار إعادة توحيد المؤسسة العسكرية، إضافة إلى تراجع مساحة التباين بين مجلسي النواب والدولة بشأن مسار العملية الانتخابية.
وفي اليمن أيضاً، تتزايد مساحة التقارب ما بين الأطراف الفاعلة في ملف الأزمة، وربما سيمثل لقاء جنيف المرتقب في حال حدوثه نقلة نوعية في العلاقة ما بين الحكومة المعترف بها والحوثيين، فالمليشيا لم تشارك في مفاوضات مجلس التعاون الخليجي (أبريل 2022) رغم توجيه الدعوة لها، كما أن اللقاءات التي تجري في الأردن بوساطة البعثة الأممية لم تنضج حلاً بشأن الملفات المطروحة على طاولة التباحث، وبالتالي هناك رهان على حدوث اختراق في لقاء جنيف.
3- صعوبة الاستناد إلى الحسم العسكري: على نحو ما سلفت الإشارة، لا يزال أطراف الصراعات لديهم القدرة على الحفاظ على مناطق النفوذ، لكن من الصعوبة بمكان الإبقاء على استقلالية أي طرف بمناطق النفوذ والسيطرة، وبالتالي لم يتمكن أي طرف من الحسم العسكري لمشروعه الخاص، بل وصلت كل الأطراف إلى مرحلة الإنهاك في الصراع، وبالتالي بدأت تلجأ إلى الطاولة السياسية كبديل، على قاعدة ما لم تكسبه بالمدفع يمكن أن تكسبه على طاولة التفاوض. فمثلاً لم تتمكن المليشيا الحوثية من السيطرة على موارد النفط والغاز في مأرب، لكنها تبحث من خلال التفاوض عن الحصول على قدر من العوائد الاقتصادية منها.
4- تفاقم حدة الأوضاع الإنسانية: وهو أحد العناوين الرئيسية التي تحولت إلى دافع لدى الوسطاء الدوليين، دون أن ينفي ذلك أن بعض المانحين اتجهوا إلى وضع اشتراطات لمواصلة تقديم الدعم، خاصة وأن العديد منهم يواجهون تحدي الأولويات في أزمات أخرى، لا سيما الأزمة الأوكرانية، كما هو الحال في الأزمتين اليمنية والسورية، بينما في الأزمة الليبية ثمة تركيز أكثر على سجل حقوق الإنسان، في ظل عدم حاجة ليبيا الغنية بالنفط إلى دعم اقتصادي على غرار دول الأزمات الأخرى.
تحديات محتملة
على الرغم مما تشكله هذه الدوافع من فرص ظهرت بعض مؤشراتها، إلا أن هناك تحديات مقابلة بالقدر ذاته، يتمثل أبرزها في:
1- انعكاسات التنافس الدولي المستمر: ويأتي في مقدمته التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا والذي يؤثر بشكل سلبي على تلك التطورات على الرغم من اتفاقهما على نفس العنوان، إلا أن هناك تبايناً واضحاً في التفاصيل وفي التحركات. فعلى سبيل المثال، تسعى موسكو إلى وضع خطة عمل واضحة في ليبيا لا تُقصي أي طرف من العملية الانتخابية، في تلميح لعدم إقصاء النظام السابق، وقد تستخدم الفيتو حال عدم تحقق شروطها، في الوقت الذي تحتاج فيه خطة باتيلي إلى تمرير من مجلس الأمن.
وكذلك في اليمن، ثمة مخاوف من تحول الملف إلى حالة من الاستقطاب الدولي. وفي سوريا قد يكون الأمر أكثر على مستوى التحدي بالنظر إلى وجود القواعد العسكرية للطرفين الروسي والأمريكي.
2- تزايد ضغوط عامل الوقت: لا يعتقد أن هناك اختراقاً سريعاً يتوقع حدوثه في مسار التسوية على الرغم من الدوافع والمؤشرات الحالية، خاصة فيما يتعلق بمواقف القوى المحلية. ففي الملف الليبي، جرى الاتفاق على تسوية الخلاف حول القاعدة الدستورية تحت ضغط، إلا أن الاستمرار أحدث نقلة فارقة في المشهد يتطلب تسوية ملفات عالقة أخرى قد تُطيل الأزمة، كملفات أزمة السلطة التنفيذية، والمناصب السيادية. أما في اليمن، فلا يزال الحديث عن ملفات ثانوية، ورغم عدم التقليل من أهميتها، لكن الرهان على أن تشكل مدخلاً لتناول القضايا الرئيسية الخاصة بالتسوية لا يزال محل شك.
3- تباين الرهانات من مخرجات التسوية: فالنظام السوري، والحكومة الشرعية في اليمن، يراهنان على استيعاب القوى الأخرى كشريك سياسي وليس في إطار عملية تقاسم سلطة على عكس ما تراهن عليه الأطراف الأخرى، التي تركز على عملية تقاسم تتجاوز حد الشراكة.
بصيغة أخرى، من الصعوبة بمكان الرهان على أن تُعيد التسوية عقارب الزمن إلى ما قبل اندلاع الصراعات أو الأزمات، كما لا يمكن الرهان في الوقت ذاته على أن تقود أي مخرجات إلى عملية استقرار بمجرد الوصول إلى اتفاق سياسي، لا سيما وأن هناك سوابق لاتفاقيات سياسية لم تدخل حيز التنفيذ.
مسار طويل
في الأخير، يُمكن القول إن معطيات التفاعلات الحالية في ملفات الصراعات والأزمة تشير إلى متغيرات قد تعزز من الانفتاح على مسارات التسوية، مع تغير قواعد اللعبة الدولية والمحلية في تلك الملفات، إضافة إلى صعوبة استمرار الصراعات المسلحة التي تتراجع ليس نتيجة قرار القوى المتصارعة، ولكن نتيجة لدورة الصراع التي وصلت إلى مداها، ولا يعني ذلك بالتبعية أن مظاهر الصراعات ستنتهي كلية، فالتصعيد الإسرائيلي-الإيراني في الساحة السورية لن ينتهي في ظل بقاء مسبباته، وكذلك وجود القوى الأجنبية والمرتزقة في ليبيا يُبقي على جانب من أدوات الصراع. وعلى غرار الحديث عن الصراع المستدام أو طويل المدى، فإن التسوية هي الأخرى قد تأخذ مساراً زمنياً طويلاً وتتعدد مراحلها.